بقلم:محمود فؤاد
بدأت توجهاتي
الفكرية في البزوغ عندما بدأت البحث عن حل أقرب إلى المثالية لمشاكل الوجود وتصور لفكرة المثالية التي كانت
تؤرقني دائما حينما اطلعت على مباديء الشيوعية..مباديء تعدك بجنة على الأرض يعيش
فيها الجميع في سلام وعدل وإنتاج وفير يكفي الجميع دون الحاجة إلى النزاع والتنافس
وتقدم حلولا لكافة المشاكل التي تعاني منها الإنسانية حيث يذوب الفرد في الكل
وتصبح البشرية وحدة واحدة قوية ومتماسكة..لم أدرك وقتها إن مثل تلك الأفكار التي
تأخذ صبغة الدين والإيمان الغيبي والمعرفة الكلية بمسار التاريخ وإدعاء إمتلاك
الحقيقة المطلقة هي أساس فساد وبؤس تلك العقيدة على نبل غايتها..ربما كنت وقتها
أكثر إندفاعا (وهي أيدولوجية تقوم أساسا على الإندفاع وراء أفكار جامدة غير قادرة
على استيعاب أي تنوع أو مرونة اللذين هما سر تميز وروعة الكائن المسمى بالإنسان
دونا عن غيره من الوحدات البيولوجية)وأكثر إنفصالا عن الواقع ورغبة في تحقيق نصر
داخلي سريع بالانحياز لها..أقل استيعابا لحقيقة كيف يدور العالم وإلماما بالتاريخ
كوحدة واحدة مشكلة من حلقات لا تنفصل.. بل إلماما بالكون نفسه وطبيعته الفيزيائية
والبيولوجية حتى قبل أن يوجد الإنسان وكيف أن طبيعة الكون هذه هي التي مكنت
اللإنسان من الظهور والتطور وصولا إلى لصورته الحالية وكما يقول شاعر العلم كارل
ساجان:نحن وسيلة الكون في اكتشاف نفسه.
واجهت دائما نفس
المشكلة مع اليساريين التقليديين..هم دائما أشخاص يشعرون أنهم خدعوا في هذه الحياة
وأنهم يستحقون أفضل من هذا..يمتلكون شعورا داخليا بأنهم لابد أنهم مميزين ولكن
المجتمع لا يفهمهم ولا يعطيهم حق قدرهم وهو شعور إنساني طبيعي يصاحب الجميع بنسبة
ما ولكنه يتفاقم بداخلهم ويسيل ليغطي حياتهم بأكملها وكلما زاد إحباطهم وترديهم
كلما زاد تمسكهم بأيدلوجيتهم التي تمتلك الحقيقة المطلقة والنهائية وهم على يقين
أكثر من ديني أن المسار الوحيد للتاريخ المقرر سلفا حقيقة راسخة ومستعدون لقتلك
وجعلك تأكل مقلتيك وأطرافك حيا للتشكيك في ذلك..لذا فهم يعيشون في حالة هروب مستمر
من الواقع في دائرة وحشية مابين عدم القدرة على الإنجاز أو تقديم أي شيء حقيقي
والنجاح على المستوى الشخصي أو العام والتمسك أكثر بمجموعة من الشعارات الجوفاء
التي تحمل في مكنوناتها بذرة الجمود والقمع وإلغاء الإنسان وحريته وقدرته على
الإبداع وتنوع المنتج الإنساني والتنافسية والتطور الذي هو طاقة الدفع للحضارة
وأصل الحياة نفسها.
يتحدث كارل بوبر في
كتابه(خلاصة القرن)عن انحطاط الماركسية في عصر ما بعد ستالين(لسنا في مجال للحديث
عن الحقبة الستالينية على بشاعتها وتدليسها هنا) وتفريغها من أي شيء عدا أنها نظام
جيد لتثبيت أركان الحكم و الحتمية التاريخية للرأسمالية..الحتمية التي جعلت خروشوف
يحمل رؤوس الصواريخ بالقنبلة بقنبلة ساخاروف الهيدروجينية التي تعادل في قوتها
ثلاثة آلاف قنبلة نووية (أي ثلاثة آلاف ضعف ما حدث في هيروشيما) في خليج الخنازير
بكوبا أملا في تحقيق نصرسريع وساحق على الرأسمالية الممثلة في الولايات
المتحدة..الحتمية والعقيدة المطلقة التي حولت عالم عبقري وفذ مثل ساخاروف إلى مجرم
مسخر لخدمة أغراضها بدلا من خدمة الإنسانية والحضارة ..لا أجد هذه القدرة على صنع
اليقين المطلق في عقيدة أخرى إلا في الأديان الإبراهيمية..أتخيل دائما طالبان إذا
امتلكت قنبلة نووية فهي تعرف هي الأخرى جيدا
ما ستفعله بها..أتخيل إسرائيل لو لم يكن تأثير الإشعاع النووي قادرا على
الوصول إليها (من الممكن أن تستبدل كلمة الشيوعية بالأديان في المقاطع السابقة).
أرى دائما أن
الأفكار الناجحة هي الأفكار القادرة على الاستمرار والتماوه مع الواقع وقيم
العصر..نحن نعيش الآن في عصر العلم..عصر الحريات والمجتمعات المفتوحة..يمتلك العلم
حلولا لكافة مشاكل الإنتاج في المجتمع..والعلم لا يتعامل إلا مع حقائق واقعية
ومثبتة تم إختبارها العديد من المرات وأثبتت نجاحا ساحقا..لا يدعي العلم إنه يمتلك
كل الحلول ولكنه يقترب كل يوم من تحقيق هذه الغاية.. ولا يخجل العلم الحقيقي من
الاعتراف بالخطأ ولكنه يجري الاختبار تلو الاختبار للتأكد من صحة الافتراض دائما..
يرتقي بك دائما ويجعلك اكثر إنسانية وتقبلا للآخر ويخلق دافعا للبقاء والتقدم
حينما تدرك أنك إن لم تسايره وتجاريه فإن مصيرك هو الزوال والتلاشي
التدريجي..يجعلك أكثر إحاطة بمعنى الحياة وإحتراما لحرية الرأي والتنوع في الرؤية
وتنافسية الأفكار الضرورية لأي حضارة بل حرية جميع الكائنات على الكوكب بمفهوم
علمي أوسع وأشمل..لذا فالخلطة التي أثبتت دائما قدرتها على الصمود والدفع للأمام
تتشكل دائما من العلم بقدراته الأشبه بالسحر وقيم الليبرالية العلمانية التعددية
ذات الشق الاجتماعي التي تكفل قيم المساواة وحقوق الإنسان وحريته ومستوى المعيشة
الكريمة الجديرة بذلك الكائن الذي تمكن دون غيره من استعمار هذا الكوكب بل والخروج
إلى عوالم أخرى بحثا عن حضارات أخرى بعيدا عن التعصب والجهل والخرافة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق