بقلم:محمود فؤاد
تقدمت عربة الترحيلات ببطء تعبر سياج مرتفع من السلوك الشائكة لمحته مع الشعاع الوحيد للضوء الذي تسرب من الفتحة التي تركوها للتنفس في سقف الشاحنة ثم عاد الظلام يغمرنا مرة ثانية,في هذه اللحظة عبر بصري خيال لوجوه الآخرين الذين لابد وأنني أشبههم الآن تماما,وجوه هزيلة شاحبة بارزة عظام الوجنتين تغطيها خصلات من الشعر المتشابك بالوحل والقاذورات ونظرة فارغة تماما من أي معنى,كنا نعرف الآن مصيرنا بالضبط وهو مقارنة بالدفن حيا أسوأ بكثير,هذا ما نعرفه رغم أننا لا نعرف ما هو بالضبط..عندما تدفن حيا فإنك ستموت بعد أسبوعين أو ثلاثة على أقصى تقدير.
أصدرت فرامل الشاحنة عواءا طويلا وسمعنا صوت خطوات أحذية عسكرية ثقيلة تدور حولها ثم صوت مفاتيح تدور في أقفال بقوة وانفتح الباب وقفز حارسان ضخمان يرتديا المعاطف الطويلة الخاصة بقوات حفظ السلام كما يسمونها إلى داخل صندوق الشاحنة , كان الظلام يغطي كل شيء ولا يبدو أي ضوء لمنطقة مأهولة من بعيد مع صقيع قاتل لا يمكن أن تجده إلا في منطقة صحراوية,وقف في مواجهة الباب ضابط برتبة عقيد يرتدي معطفا رماديا ثقيلا على زي عسكري كامل وقفازين من الجلد الأسود ويبدو على وجهه انطباعا باردا ثقيلا,من خلفه بدا المبنى الرهيب الذي كنا نسمع عنه فقط,عند هذه النقطة انهال علينا الحارسان ركلا بأحذيتهم الثقيلة وهم يدفعوننا خارج العربة لنتساقط فوق بعضنا وأنا أشعر بأن عظامي قد سحقها الصقيع مع أقدامهم إلى فتات ليظهر فجأة من العدم حراس آخرون وينهالون علينا بهراوات غليظة وعصيان كهربائية طالبين أن ننتظم جنبا إلى جنب ونتجرد من ملابسنا تماما,وقفنا عارين تماما وأنا أتخيل أنني سأموت في هذه اللحظة بالتأكيد وأنني إذا نظرت إلى أطرافي فلن أجد أيا منها ,بدأ احد الحراس يرش علينا مسحوقا أبيض وظهر آخر بخرطوم ضخم وأغرقنا بالماء ثم أُ ُلقي أمام كل منا بحقيبة ملابس وطلب منا أن نرتديها بسرعة ولم يكن في حاجة أن يطلب,بعدها تحركنا إلى الأمام بزينا الأسود من قطعة واحدة كالأفارول وعبرنا بوابة المبنى التي تحمل أعلاها الشعار العملاق للجمهورية ودخلنا إلى غرفة جانبية واحدا واحد ليزيلوا عنا الشعر بالكامل ونهائيا باستخدام الليزر ثم قاموا بطبع شرائط باركود كوشم على أرضية رؤوسنا العارية بعدها قادونا في صف طويل إلى طابق أعلى وسرنا عبر ممر طويل تقع على جانبيه مئات الغرف.
دفعني الحارس إلى غرفة بها سرير معدني لا يتسع لفرد واحد حتى, تستطيع أن تنهض عنه بالكاد لتجلس إلى رف معدني,لم ينطق لنا أحد من الحراس بكلمة واحدة منذ دخلنا..كان تعاملهم معنا بأكمله بالعصا الكهربائية والهراوات ثم بالإشارة, وبعد أن خرج وقبل أن أغرق في ظلام دامس تماما استطعت أن أدور بنظري في جدران الغرفة الرمادية الملساء والتي لا تحتوي على فتحة واحدة إلا تلك التي بجانب السرير والتي يمكن استخدامها للتبول والتبرز وبعد أن أطفأت الأنوار استطعت أن أرى مستقبلي جيدا.
************
استيقظت على صدمة كهربائية سحقت كياني بأكمله,وشعرت بأن مخي نفسه قد دهسته مدرعة حربية,وفي الخط الفاصل ما بين الحلم والحقيقة استطعت أن أرى طبيبا وحارسان يحملان جهازا ذي أقطاب ويغادرون وتحولت طرقات أحذيتهم على الأرضية إلى رصاصات تخترق أذني فأخذت أتلوى في السرير حتى سقطت أرضا لارتطم بالمقعد المعدني المثبت إلى الأرض بقوة,نهضت وأنا أشعر بوهن شديد لأجد على الرف أمامي ساعة و كتاب من خمسين ورقة مكتوب على غلافه سيتم اختبارك في محتويات هذا الكتاب الساعة السادسة مساءا,نظرت إلى الساعة فوجدتها الثامنة,حاولت أن اسحب الكرسي لاجلس وتذكرت أنه مثبت فجلست وفتحت الكتاب لأجده يتحدث عن تشريح النباتات وخلاياها مليء بالأرقام المعقدة والإحصائيات والتفاصيل الفرعية,شرد ذهني كثيرا في المنتصف أتذكر حياتي السابقة لكنني أنهيته وراجعته بالكاد عندما فتح الباب عند السادسة بالضبط ووقف عنده شخص قصير يرتدي بدلة عادية رمادية اللون تحمل على جيبها العلوي الأيسر شعار الجمهورية مطرز بأناقة وفخامة رائعة وخلفه حارسان ضخما الجثة ملامحهم جلفة غليظة وبدأ في إلقاء الأسئلة علي متعمدا أن يطلب مني ذكر الأرقام والتفاصيل الغير مهمة ثم التفاصيل المعقدة بوجه خال تماما من أي تعبيرا أو رد فعل على إجاباتي,كان جسدي يئن من المقعد القاسي وقلة النوم والبرد ولكنني كنت أجيب على أسئلته بسهولة وعند السؤال الأخير سمعت صراخا قادما من الغرفة المقابلة لم أتصور يوما أن بشريا قادرا على إصداره,لم يلتفت الرجل أو الحارسان حتى ولم يبدو عليهم أي تغير عندما سألتهم عن ما يحدث.
**********
بعد ثلاثة أيام عرفت ما كان يحدث ولكن بالطريقة الصعبة ودون أن أقصد,كان قد تكون عندي انعكاسا شرطيا جعلني استيقظ قبل الساعة السابعة كل يوم بعد يوم واحد آخر من استيقاظي على صدمة كهربائية أخرى أفرغت فيها مخي مع أحشائي من كل فتحات جسدي,كالعادة دخل الحارسان مع الطبيب ليشغلوا حيز الغرفة بأكملها وبدت على وجهه خيبة أمل كبيرة عندما وجدني مستيقظا,وضع الكتاب الجديد على الرف ثم استدار وغادر,جلست إلى المكتب وفتحت الكتاب وبدأت في حفظه وكانت ذاكرتي قد بدات الاعتياد على تسجيل المعلومات واستراجعها بسهولة,لطالما كنت بارعا في هذا,تذكرت حياتي السابقة,لكم اشتاق لأن استمع لمقطوعة موسيقية أخرى لتشايكوفسكي أو بيتهوفن,أن استمع لعزف جون كولتراين أو مايلز دافيز وأنا أجلس على أريكتي أقرأ رواية لنجيب محفوظ أو تولستوي أو مسرحية لجوتة,أن أقرأ أشعار دانتي بتمهل فأقلبها على كل وجوهها ثم تسري في جسدي تلك الانتشاءة التي يحملها إليه معنى جديد..هنا الطريق إلى مدينة العذاب,هنا الطريق إلى الألم الأبدي,هنا الطريق إلى القوم الهالكين..استغرقتني تلك الخواطر وغيرها عندما نظرت إلى الساعة لأجدها قد أصبحت الثانية,كان حجم الكتب قد بدأ في الازدياد ومواضيعها تصبح أكثر تعقيدا وصعوبة,أيقنت أنه لن استطيع أن انهي المطلوب مني قبل السادسة وتساءلت بداخل نفسي عما سيحدث لي إذا لم اتمكن من الإجابة جيدا وتذكرت الصرخات التي سمعهتا منذ وصولي وشعرت بسواد يجثم على روحي,حاولت إنقاذ ما يمكن حتى دقت السادسة فانفتح الباب وبرز الرجل القصير وبدأ يسأل جاوبت سؤالين فامطرني بوابل آخر لم استطع أن انطق فيه حرفا وابتسامة ترتسم على وجهه بهدوء فتراجع إلى الخلف وتقدم الحارسان يحملان جهاز الصعق الكهربائي,حاولت المقاومة لكنني كنت كالطفل فقاما بتثبيتي إلى السرير المجهز بقطع تثبيت حديدية على جانبه وقاموا بوضع الأقطاب أولا على رأسي ثم أقطاب أخرى على خصيتاي متصلة بجهاز أصغر (فكرت في هذه اللحظة أنهم لا ينوون قتلي وهذه فكرة أكثر إفزاعا من الموت نفسه) وبدأ أحدهم يضخ الكهرباء إلى جسدي وأنا انتفض بقوة وأعض بأقصى ما أملك على القطعة التي وضعوها بفمي حتى لا أقطع لساني أو أبلعه,بدأوا يرفعون الفولت بالتدريج ومعه ارتفع صراخي أكثر وأكثر,كنت أتساءل لماذا يتركوننا هذه الفترة من السابعة حتى السابعة في الصباح التالي ثم أدركت عندما لم أفق إلا في السابعة صباحا,أدركت أيضا انه في الأيام التي تعبر فيها بنجاح فإنك لن تستطيع أن تفكر في أي شيء آخر سوى أنه كيف ستعبر من ذلك في اليوم التالي وتظل في عذاب مقيم إلى أن يغلبك النوم لحسن حظك بعد أن نشأ لديك ذلك الكابوس الخاص بأنك لن تنام وبالتالي لن تكون بنشاطك لتحفظ المطلوب منك وعندها أضمن لك انك ستنام نوما عميقا.
********
في السنوات الأولى كنت رغما عني أشرد لساعات ,حاولت أن انظم الأمر وأن اخطف دقائق استرجع فيها متعي السابقة لأحافظ على سلامة عقلي ولأواصل لكن الضغط كان أقوى, كنت استغرق في الذكريات حتى جاء اليوم الذي نضبت فيه,أو أنني لم أعد استطيع استعادتها,كنت أحيانا اتعمد ألا استذكر جيدا حتى أحصل على شحنتي الكهربية فاستطيع النوم بعد أيام طويلة من العذاب المقيم,كنت أقضي ليالي بأكملها مادا يداي أمامي أتخيل عليها أحد وجوه حياتي السابقة وابدأ في الحديث إليه حتى ذابت هذه الوجوه تماما ونسيتها كأنها لم توجد قط,كان الطعام مع الماء يقدم لي من فتحة في الباب مرة واحدة اقتسمها للغذاء والعشاء,كان الباب يفتح مرة واحدة أسبوعيا يشيرون لي فيها بخلع ملابسي ثم يرشون المسحوق الأبيض والماء ويغادرون فأرتدي ملابسي مرة أخرى وأظل ارتجف حتى الصباح,اتخذت من ذكرياتي مع من أحبهم سببا للأمل واجتهدت في المذاكرة بعد أن رأيت الاستحسان في بعض الأوقات على وجه رجل آخر كان قد حل محل الرجل القصير بعد سنوات طويلة و بأنهم سيسمحون لي بالخروج ولكن سنوات أخرى مرت تغير معها هذا الرجل وظللت أنا,حاولت الانتحار ولكن الغرفة كانت خالية فعلا من أي شيء يصلح لذلك,جربت أن أصرخ لليال طويلة ولكن الغرفة كانت عازلة للصوت على ما يبدو,مرت سنوات وسنوات أخرى لم أر فيها وجهي منذ آخر مرة نظرت فيها إلى مرآة ولم أتبادل حديثا من أي نوع مع أي أحد,أجلس في الظلام أتحسسه فتصطدم يدي بالعظام الجافة والجلد المتقرح الرقيق,كنت قد فقدت القدرة على البكاء بعد السنوات القليلة الأولى,وبعد سنوات اخرى فقدت القدرة على التضرع إلى أي قوة قد تكون موجودة وتمتلك مثقال ذرة من الرحمة,أجلس وأعتصر جسدي بذراعي وكأن مجرد الرغبة الشديدة في الموت ستأتي به حتى فقدت القدرة على الرغبة أصلا.
*******
ذات صباح دخل إلى الغرفة ثلاثة حراس مع ضابط شاب ذو وجه حليق تماما وعيون غائرة ميتة النظر وأشار لهم أن يقتادوني أمام الغرفة ثم أخرج مسدسه وصوبه إلى جبهتي وهو ينظر إلى عيني ,شعرت بالسعادة تغمرني ,أخيرا اللحظة قد جاءت, ولكنه بقي على هذا الوضع لدقائق أعادني بعدها الحارسان للداخل ووضعوا الكتاب اليومي على الرف وغادروا,تكرر هذا الأمر لسنوات طويلة حتى فقدت الأمل في الموت نفسه.
******
ذات صباح دخل ضابط مع حارسان آخران في تمام السابعة صباحا وأطلق رصاصة واحدة نفذت من جبهتي واستقرت هناك في مؤخرة مخي دون أن تنفذ من الرأس.