أنا

أنا

الخميس، 29 ديسمبر 2016

الحياة الجديدة(قصة)



سقطت القهوة على الرواية التي كان يقرأها وعلى أوراقه فلعن حظه السيء .شرع في إبعاد التليفون والأشياء الأخرى على مكتبه وطلب من العامل أن يجلب شيئا لتنظيفه وعندما انتهى جمع أوراقه وهاتفه المحمول والرواية وألقى بهم جميعا في حقيبته وغادر مكتب المحاماة الذي يمتلكه وهو يحاول السيطرة على أنفاسه فأراح ربطة عنقه ومسح على شعره الناعم بينما يعبر باب العمارة إلى سيارته ليستقلها ويغادر.

أدار الراديو وتنقل من محطة لأخرى فوجد أغنية مايكل جاكسون ((استسلم لي)).ردد كلمات الأغنية وهو يهز رأسه مع الموسيقى بقوة ومنى نفسه بأمسية سعيدة يقضيها مع زوجته وهو ينطلق بسرعة وقد مالت الشمس إلى المغيب واصطبغ الأفق بلون برتقالي محبب ونسمات من الهواء المنعش اللطيف تداعب جسده وتعطي شعورا منعشا باردا مع العرق الذي غطاه بالرغم من انخفاض حرارة الجو. انحرف بسيارته وقد اقترب من منزله أمام أحد فروع سوبر ماركت شهير ودخل إليه وتجول بين صفوف الطعام المتراصة هنا وهناك فجلب بعض التفاح الأحمر ثم حصل على شريحتين غنيتين من اللحم البقري ومد يده وهو في طريقه للخارج فسحب صندوقا صغيرا من شيكولاتة كواليتي ستريت التي تحبها زوجته ودفع النقود ثم غادر.فتح الصندوق الخلفي للسيارة ووضع الأكياس بها وبينما هو يهم بإغلاقه لمح ذلك المحل الصغير لصناعة اللافتات على الجانب المقابل من الشارع. أغلق الصندوق ببطء ثم عبر الشارع إلى الجهة المقابلة.وجد بابا زجاجيا مكتوب عليه ادفع.دفع الباب ببطء ودلف إلى الداخل ليجد رجلا في منتصف العمر يجلس إلى مكتب صغير ممسكا بفرشاة صغيرة يكتب بها على لوح صغير من الخشب اسم أحدهم وقد علقت على الحائط خلفه لافتات متعددة الأشكال وشرائح معدنية نحت عليها أسماء أصحابها لتوضع على مكاتبهم أو من الرخام لتعلق على مقابرهم.
((أريد لافتة معدنية يمكنني تثبيتها على لوح مكتبي))
ثم أخرج ورقة صغيرة وكتب عليها اسمه:
                                                                       أمير عدلي
                                                                         المحامي


 دون المقاس واللون المطلوب ومرر الورقة إلى الرجل الذي تناولها دون أن ينظر إليها بابتسامة سريعة كأنه يعرفه وأودعها أحد الأدراج وطلب منه أن يختار فورمة الخط المناسبة من اللافتات المعدنية خلفه فأجال فيها نظره سريعا واختار واحدة فأشار لها فأخبره الرجل بأن يمر بعد يومين وأخبره بالمبلغ المطلوب فدفعه وتناول الإيصال وهم بالمغادرة عندما وقع نظره على تلك اللافتة من الرخام الأسود المكتوب عليها بماء الذهب:


                                                                        المرحوم
                                                                  أمير عدلي عبدالملك
                                                 توفي في31ديسمبر 2016 الموافق2ربيع ثان 1438

وقف للحظة لا يفهم وإن لم يتغير التعبير على وجهه،هذا اسمه وتاريخ الوفاة تحته هو اليوم بالذات،وقف محدقا باللوح لا يستطيع أن يفكر بأي شيء،رآه الرجل فابتسم وسأله:
 -((هل يعجبك تصميمها يا أستاذ..يمكنني أن أصنع لك واحدة تعلقها على باب مكتبك من الخارج))
-((لمن هذه؟من طلب منك صنعها؟!)) 
 -((جاءني رجل منذ فترة وأخبرني أن الطبيب قد أعلمه بوفاة أخيه في خلال هذا الشهر وطلب مني أن أعد هذا اللوح بتاريخ نهاية العام..عافاك الله وأعطاك طول العمر))
 غمره شعور بالحيرة أكثر منه بالخوف وازدادت ضربات قلبه بغتة وهو يقول بصوت متردد :((أشكرك!)).
********
 فتحت زوجته الباب بهدوء وتطلعت إليه بابتسامة مشرقة وكان يحاول إيلاج المفتاح عدة مرات ففشل،لم يستطع أن يبادلها نفس الابتسامة وهو يتقدم إلى الداخل فهزت رأسها باستغراب وتبعته للداخل.ألقى بحقيبته والأكياس فتناولتها وهي تسأله :((لماذا يبدو وجهك شاحبا..هل كان يوما مرهقا لهذه الدرجة؟))
 رفع رأسه إليها ببطء ونظر إليها بارتياب وكان صوت ضربات قلبه في أذنه قد غطى على صوتها الذي تلقي به دعاباتها المعتادة قبل أن تغادر إلى المطبخ،،بالتأكيد هي من أعد هذا، من غيرها،من سيطلب من صانع اللافتات القريب من المنزل أن يعد شاهدا لقبره غيرها،إذا فشكوكه صحيحة،تلك النظرات التي كانت تتبادلها مع صديقه أكرم لم تكن بريئة كما أعتقد،تلك المكالمات الهاتفية مع صديقاتها في وقت متأخر،المحل القريب من المنزل،هذه الساقطة تخطط لقتله مع رفيقها،تخطط لقتله اليوم بالذات ثم تستقبله بتلك الابتسامة على وجهها. تعجب من القدر الذي جعله يدخل إلى ذلك المحل اليوم.
((ثم يقول ساقط أن الله غير موجود))
 قال لنفسه،ثم قرر أن يتابعها لعله يستشف من حركاتها شيئا ولكنها تمارس حياتها بالبراءة المعهودة منها،أحضرت طبقا به بعض التفاح وبدأت في تقشيره كما يحب،لم يستطع أن يتحمل أكثر فنهض من مكانه وتوجه إليها ثم مال برأسه ناحيتها،أجفلت واضطربت رموشها من نظرته فاعتبرها إشارة على خيانتها فلطمها بقوة وانهال عليها بالصفعات والركلات وهو يصب عليها أقذر ما أعانه به ذهنه ثم سحبها من شعرها وألقاها بالحمام وأغلقه وغادر الشقة كالثور الهائج.

في سيارته حاول عدة مرات الاتصال بأكرم ولكن هاتفه كان مغلقا.اتصل بمكتبه فأخبرته سكرتيرته بأنه خارج البلاد وسيعود بعد أسبوع.انطلق بالسيارة يجول المدينة دون هدف حتى وجد نفسه على أحد الطرق السريعة،توقف في إحدى محطات البنزين على الطريق فدخل إلى الكافيتيريا الملحقة بها وحصل لنفسه على كوب من القهوة باللبن وجلس في أحد الأركان يتأمل الجميع،واتته رغبة بأن يحمل المسدس المعلق بجانبه ويفرغه بكل ما يتحرك لعل النار بداخله تهدأ،تأمل زينة أعياد الميلاد المعلقة بكل مكان ثم أغمض عينيه ومال برأسه. 
((عام سعيد يا أستاذ هل من الممكن أن أرتاح قليلا بجوارك))
 طالع هذا الرجل الذي يرتدي ملابس سانتا كلوز،قيمه بنظرة واحدة ثم هز رأسه فجلس.
 ساد صمت فعاد يميل رأسه ويغمض عينيه وقد تصاعد البخار من كوب قهوته فشعر به دافئا على أنفه وهو يميل الكوب ليرشف منه.
 ((لقد سئمت هؤلاء الصغار المثيرين للتقزز مع آبائهم المدعين..لم أجلس منذ الصباح الباكر))
 كانت هذه من سانتا، التفت إليه فأكمل:((ربما لازال الخطر قائما)) ثم نهض ليستقبل طفلا صغيرا فاتحا ذراعيه.ربما لازال الخطر قائما،فكر في هذا الاحتمال،أدار رأسه ينظر إلى الخارج عبر زجاج الكافيتيريا،هذا الرجل هناك الذي أوقف ليملأ خزان وقوده وابتعد ليشعل سيجارة في الجهة المقابلة من الطريق،لقد رأى هذه السيارة أكثر من مرة اليوم،هذا الرجل يتبعه بالتأكيد والسبب لا يبدو خفيا،هل استأجره أكرم مع زوجته، أم أن الأمر لا علاقة له بهما،حاول أن يتذكر أي عداوة تربطه بأحد الأشخاص فلم يسعفه عقله،هو على حد معرفته مسالم،يعمل كمحام لكنه ثري بما فيه الكفاية فالمهنة لمجرد القبول والواجهة الاجتماعية وهو لا يقبل بقضايا قد تجلب له المشاكل أو التي قد تأخذ كثيرا من وقته،لماذا فكر أن زوجته قد تخونه،زوجته بنت ناس وقد تزوجها عن حب ولم ير معها إلا كل سعادة رغم أنهما لم ينجبا،دار كل هذا برأسه وأكثر وتحسس المسدس في جانبه وهو يغادر ويلقي نظرة على الرجل الذي انتهى من سيجارته ووقف يدفع مقابل الوقود فاستقل هو سيارته وانطلق.

انطلق بسرعة متوسطة وهو يتأمل المرآة الأمامية حتى رأى السيارة تبرز على الطريق خلفه فزاد سرعته محافظا على المسافة بينهما،نظر إلى ساعته وكانت التاسعة مساءا،وعندما بلغ بقعة مظلمة من الطريق قلل من سرعته حتى اقتربت منه السيارة بالخلف ثم أدار سيارته لتعترض الطريق وغادرها مشهرا مسدسه متوجها إلى الرجل الذي اتسعت عيناه رعبا وهو يحدق به ويتوسل إليه ألا يؤذيه أو يؤذي ابنه.تطلع إلى المقعد الخلفي ليجد طفلا في الرابعة أو الخامسة ممدا عليه يفرك عينيه من أثر الاستيقاظ فتراجع بظهره حتى بلغ سيارته وقفز إلى مقعد القيادة وغادر مسرعا.
********
 اقتربت الساعة من الحادية عشرة،مازال يجوب الشوارع بعد عودته إلى المدينة مرة أخرى،كان قد عرج على محل اللافتات مرة أخرى ليلق نظرة ثانية،الاحتفالات برأس السنة الجديدة في المقاهي والمولات والشوارع خلقت جوا حميميا أنساه كارثته،لابد أنها مزحة ثقيلة كان يعدها له أحد أصدقاؤه،مفاجأة جديرة بالهالوين وليس برأس السنة،ارتاح ذهنه لهذه الفكرة،رأى تلك الفتاة بجسد طويل فارع وبشعر يصل إلى خصرها تتحرك في إحدى الشوارع ،مال بسيارته إلى جانب الطريق وأوقفها ثم غادرها متوجها إليها، كان مظهره أنيقا بعد أن ضبط هندامه وربطة عنقه وارتدى سترته الهاريس تويد التي يبقيها بالسيارة دائما وقد استجمع كل لباقته وهو يقول لها:((أنا من الأسكندرية وابحث عن مكان للاحتفال الليلة هل تستطيعين أن تدلينني على واحد)) اتبع ذلك بابتسامته الساحرة التي تبرز أسنانه البيضاء الناصعة وأنفه الأنيق،تشككت الفتاة في أول الأمر لكنها تأملته فابتسمت وقالت:((بالتأكيد..هناك مكان قريب لحسن حظك فأنا متوجهة إليه.))ابتسم لها مرة أخرى وسار إلى جوارها. 
 ((نستطيع أن نختصر الطريق عبر هذا الشارع،))وأشارت إلى شارع جانبي وتقدمت فتبعها،كان الشارع خال من المرة فمشي متأخرا عنها بخطوة وفي منتصفه ضربها بمسدسه على مؤخرة رأسها ففقدت الوعي ثم سحبها إلى زقاق جانبي. تركها أرضا وبدأ في خلع ملابسه قطعة بقطعة حتى أصبح عاريا ثم سقط أرضا.
*****
صفحة الحوادث بإحدى الصحف الرسمية:
 عثر بأحد شوارع القاهرة على جثة لأحد الشباب بجوار إحدى الفتيات التي تلقت ضربة على رأسها فقدت على إثرها الوعي، وكانت جثة الشاب قد تمزقت تماما وتناثرت أشلاؤها قبل أن يقوم رجال البحث الجنائي بجمعها،وتم العثور على أوراق هويته وهو شاب يدعى أمير عدلي يعمل كمحام ، وبسؤال الفتاة تبين أن الشاب كان يرافقها إلى أحد الأماكن القريبة التي تقيم احتفالا برأس السنة،وقد عثر رجال الشرطة بسيارة المجني عليه والتي دلتهم عليها الفتاة على لوح من الرخام الأسود كتب عليه اسمه وتاريخ وفاته بنفس تاريخ الأمس مما جعل الشكوك تميل أكثر إلى أنها حادثة انتحار.
 وقد قال أحد الشهود الذين يسكنون بالشارع محل الجريمة أنه كان قد أطل من نافذة ليشعل سيجارة وكانت الساعة قد بلغت الثانية عشر بالضبط ليجد شابا بالشارع يقف عاريا وقد بدأ ينشق جسده في منطقة الصدر، ورأي شيئا ما كالثعبان لكنه لا يملك أي معالم واضحة إلا بعض الزوائد الجلدية التي تتلوى على جانبيه في مادة لزجة كالمخاط قبل أن يتحرك ناحية الفتاة وينزلق إلى فمها،وبالتحقيق معه تبين أنه كان مخمورا وتم العثور على نسبة من الكحول في دمه وقد طلب المحقق عرضه على أحد الأطباء النفسيين.


محمود فؤاد

عن لورين براكو وتايلر دردن وهكذا


بدأت الأمطار في السقوط بغزارة وكانت درجة الحرارة قد انخفضت مع حلول المساء لتقترب من الصفر واحتمى الناس هنا وهناك بمداخل العمارات والمحلات والمقاهي المتناثرة على طول الشارع. باغتتنا الأمطار فركضنا إلى مقهى الأنس الذي يقع على الناصية المطلة على أحد الميادين بوسط البلد ملقيا بأضوائه الصفراء الدافئة على الرصيف الخالي من المارة المغطى بالظلام،وبينما أنا أهم بالدخول لاستقبل وهج الدفء المشع من الداخل ونغمات أغنية يا حبيبي رد عليا ازيك سلامات دانا احبك اد عنيا والعمر في حبك فات، اصطدمت بتلك الغانية عند الباب ومن نظرة واحدة دعوتها على الفور لتشاركنا الجلوس فلم تمانع فاخترنا ركنا بعيدا وشققنا طريقنا إليه في الزحام وجلست أنا وصديقي معها وطلبت حجرا من المعسل مع كوب من الشاي وطلب صديقي مثلي بينما طلبت هي كاكاو باللبن فأصدرت شخرة قصيرة من حلقي وضحكت فضحكت هي الأخرى فمددت يدي وأرحتها على باطن فخذها ثم أبعدتها وأنا أرى أحدهم يقترب ويسحب كرسيا طالبا منا مشاركتنا الجلوس فالمكان زحمة ثم يجلس دون انتظار رد ويقول لي :((خذ راحتك)) فأعيد يدي إلى موضعها ألتمس دفء جسدها خلال سروالها الصوفي الضيق واسحب نفسا عميقا من نارجيلتي التي وضعها الصبي للتو ويغيب ذهني مع الضوضاء التي سادت المقهى المكتظ.
 تأملت الرجل الذي جلس للتو؛خمسيني متوسط القامة ممتليء الجسد بوجه عريض وملامح دقيقة غارقة في هذا الوجه المشرب بالحمرة رغم لون بشرته المائل للسمرة وشارب رمادي عريض يعطي انطباعا كالبحار العجوز مع ذقنه نصف النامية والغطاء الصوفي على رأسه والسيجارة الكليوباترا التي تدلت من زاوية فمه وزجاحة البيرة الرخيصة في يده الأخرى، بدأ الرجل يتكلم دون أن ينظر إلينا:
هذه هي المشكلة.أن تكون على قدر كاف من الوعي يجعلك  تدرك مآل كل ما تلقيه إليك الحياة فتهرب منه، أو أن تدرك أن طريق واحد فقط هو ما يمكن أن يقود لشيء ما ولكن الحياة لا ترى هذا معك،تختار أن تبتعد عنها لعل قلبها يرق لك أو يلين ولكنها تبعث لك بإشارة تلو الأخرى أنها لا تنتظر أحدا،لا تعبأ بك أنت أو حتى بغيرك.في الشطرنج تستطيع أن تختار ألا تمارس النقلة التالية، فإن كانت كل نقلة فرصة متجددة فاللاعب الذكي يعرف متى يتمهل وينتظر، الذكي هو الذي يعرف ما سيحدث فعندها يمتلك القدرة على الاختيار، الذكاء في لعبة الشطرنج ليس بذكاء ممارسة الحياة،قد تعرف في الحياة ما سيحدث ولكن هذا قد يجعلك أقل قدرة على الاختيار،في الحياة إما أن تتركها هي تقرر لك أو أن تختار -الحقيقة أنها من يقنعك بذلك- وعندها قد تصب غضبها عليك أو ترتقي فتصبح جزءا منها.الحياة لا تدين لك بشيء. قالت له الساقطة بجواري:كل عيش يا أبي وتخلص من هذا الذي تملأ به دماغك،تعال إلى جانبي هكذا.وسحبت الزجاجة من يده فتناولت رشفة وأبقتها في يدها فضحك الرجل وقال لها:أنت حلوة يا بنت،وفيك شبه من لورين براكو و أنت لبؤة حقيقية مثلها، اللبؤة الحقيقية لا يبدو من أفعالها أنها تدرك حقيقتها.فضحكت ومالت برأسها ببطء تجاهه لتغمره بعطرها الرخيص وقالت: شنبك هذا يقتلني في مكاني.فقال وهو ينظر إليها :بنت القحبة هذه الوحيدة التي استطاعت أن تطوع الطبيعة والحياة لصالحها حقا بل وأن تخدعها،أعطتها الطبيعة هذا الجسد العامر لتجذب شريكا لها يستطيع توفير الموارد لنسلها فتمرر جيناتها داخل النظام الاجتماعي ولكن هذه العاهرة تآمرت مع العلم الحديث الذي أمدها بخيارات متعددة فوظفت الجنس لصالحها.
 تابعت الرجل بتركيز شديد وانتابتني رغبة حقيقية في أن أصفعه على وجهه ولكني آثرت الصمت بينما انهمك صديقي في مكالمة تليفونية،ونادى الرجل على النادل يطلب أربعة زجاجات من البيرة له وللفتاة فأحضرها النادل في كيس أسود فأخذها مع الفتاة ورحل،كانت عفاف راضي تغني الآن أن عوج الطاقية الوله وبص ليا..وقال كلام للهوا ورماه عليا، عندما أخبرني صديقي أنه مضطر للرحيل كذلك وكانت الأمطار قد توقفت.

قلع الطاقية وحلف آل إيه مبينامشي،وأنا ذنبي إيه يا جدع قال السبب رمشي.

كان المكان قد بدأ يخلو من الرواد فتابعت بعيني صاحب المقهى الذي يجلس إلى الماركات يبدو عليه آثار سطل الحشيش ويصدر برأسه تهاويم النوم وأخذت اتأمل المارة من زجاج المقهي يروحون ويجيئون في حركة بلا هدف ثم وضعت مبسم نارجيلتي ونهضت باتجاه الرجل المسطول الذي مال رأسه على صدره فاقتربت برأسي منه ثم طرقت بيدي على الماركات بقوة فانتفض الرجل من نومه مذعورا ففتحت فمي بابتسامة صفراء عريضة،هم الرجل أن يسبني فاحتفظت بابتسامتي ونظرتي التي لم تفارق عينيه حتى رأيته يرتجف واستدرت مغادرا ببطء.
 وجدتها تنتظرني مع الرجل في مدخل إحدى العمارات بزقاق في نهاية الشارع وقد مال عليها يحاول تقبيلها فأخرجت صاعقا كهربائيا صغيرا من جيبي وجذبته بعيدا عنها ودسست قطبي الجهاز بين ثدييه فانتفض وسقط أرضا،فاوسعته ضربا بقدمي حتى سال دمه.
((ترى نفسك مثقفا يا ابن العاهرة..))
ثم اقفز بقدمي على جسده فتقفز فتاتي معي وهي تصفق بيديها في نشوة. 
((إذا فلتعرف أن تاريخ الحياة البيولوجية هو تاريخ الافتراس))
 أضع على وجهي قناعا لتايلر دردن من فيلم نادي القتال بينما تضع هي قناعا فينيسيا موشى بخيوط ذهبية على خلفية سوداء يغطي نصف وجهها بنصف شفتين عابستين بينما يظهر نصفي شفتيها الأخريين على وجهها نفسه يعلوهما ابتسامة واسعة يلمع على طلائيهما الداكن ضوء الشارع أسفل بشرتها ناصعة البياض وعينيها اللوزيتين.

"""التحول"""


(تعبيرا عن الحالة المزاجية في الفترة الحالية وهو سرد به الكثير من التداعي الحر الذي ربما يحمل معنى ما أو قد لا يحمل أي معنى على الإطلاق)
ويك يا سليل التراب،أي عيش كنت تعيشه من غيري؟ألم أنقذك ولو إلى حين من وساوسك وأوهامك؛ألم أكبح لك جماح خيالك الكثير الشطط؟ولولاي لكنت فارقت هذه الكرة الأرضية منذ زمان.
 **إبليس مخاطبا فاوست

بدأ الأمر بذبابة واحدة..ذبابة واحدة مزعجة تصدر أزيزا مزعجا وتهاجمه من آن لآخر بلزوجة مزعجة،في الليل،بينما يجلس إلى مكتبه يطالع كتابا وفي ضوء لمبة النيون البارد تزحف على جلده ببطء، يهشها فتحلق في تثاقل ثم تعود إليه كالمنجذبة إلى مغناطيس وتزيد من حدة أزيزها لتثير أعصابه أكثر فأكثر، بعدها تبتعد وتعود مرة أخرى وأخرى..يرفع رأسه ليطالعها فيجد أنها ضمن فصيلة من..واحد..اثنان..وهذه ثالثة..ثم تظهر رابعة..والخامسة تستقر على مؤخرة عنقه..يطفأ النور ويستخدم وشاحا ملقى على سريره فيطردها إلى ضوء ممر خارجي أصفر خافت.يعود فيشعل الضوء البارد ويجلس إلى مكتبه..يطالع اللوحات المعلقة على حائطه ثم يرشف رشفات متتالية من كوب الكاكاو الساخن ،يرى ناموسة تقف على الرف بجواره بجانب دمية صغيرة لإحدى مخلوقات الجوبلن الخضراء،ناموسة سوداء اللون لها أجنحة عريضة و حجم غير طبيعي،ينهض ويضربها بقوة وهو يتعجب من حجمها وكيف دخلت إلى الغرفة،يعود فيستغرق في القراءة ويرفع رأسه من وقت لآخر يتأمل فكرة ما أو يدون شيء ما في ورقة قريبة،ينمو الصمت أكثر فأكثر مع توغل الليل والذي لا يصنع فارقا في الغرفة موصدة النوافذ المغطاة بستائر ثقيلة خانقة..تعود الذبابة إلى الظهور مرة أخرى،يطردها للممر،يشعل الضوء ليجد ناموسة أخرى بنفس الحجم واللون تقف في ذات الموضع،يجد صرصارا ضخما يظهر من خلف برواز معلق على الحائط وبه صورة بالأبيض والأسود لإحدى فتيات الجايشا اليابانية،أمسك بخفه في يده ورفع اللوحة استعداداً ليدهسه بقوة فوجد خلفها صرصارا ضخما آخر يحيط به العشرات من الصغار يسيرون في اتجاهات متقاطعة وعشوائية،فجأة توقفت،يكاد يقسم أنها تحدق إليه،أجفل فاختل توازنه وسقط أرضا،تلفت يمينا ويسارا ليجد طوابيرا طويلة من النمل الجبلي الأسود الكبير تتحرك هنا وهناك،خيوط العنكبوت تدلى من السقف ومن الستائر وعناكب كبيرة لم ير مثلها من قبل تتنقل هنا وهناك،هناك على مكتبه حشرة فرس نبي خضراء في حجم جرو صغير تقف على مكتبه ثابتة كتمثال ثم تدير وجهها ببطء مئة وثمانين درجة لتنظر إليه وتحرك قرون استشعارها للأمام وللخلف بالتبادل وترفع أرجلها المفصلية الطويلة ذات الشوكات الجانبية وتلوح بها كالفرس،الناموسة قد ظهرت مرة أخرى في مكانها ولكن نطاط حقل في حجم رأس إنسان بالغ يحط ورائها ويميل رأسه فيلتهمها مع الجوبلن..يركض تجاه الباب فيتدلى أمامه عنكبوت أسود بأرجله الثمانية التي تتلوى ومؤخرته المحببة الرمادية كبيض الأسماك،يفتح الباب رغم ذلك ويركض فيشعر بالعنكبوت يزحف على يده،تملكته الهيستريا وهو ينفضه فيعود.. ينفضه فيعود..ينفضه فيعود.


فتح عينيه فزعا،عينا واحدة في الحقيقة،ضوء القمر يغطي جسده بضوئه العاجي،حاول أن ينهض فلم يتحرك قيد أنملة، عادت إليه ذاكرته،يرقد هو وحيدا في قاع تلك الحفرة،تحطمت عظام قدميه وحوضه،لابد أنها تحطمت لكنه لا يشعر بذلك،تحطمت فقرات ظهره هي الأخرى فأصابه شلل رباعي وفقد الإحساس في النصف السفلي من جسده ولكن تلك الأفعى لم تختار أن تضع بيضها هناك،وضعته على بطنه تأتي إليه من وقت لآخر فترقد عليه ويشعر بملمسها عبر ملابسه الممزقة ولكن لحسن حظه اختارت حشرات أخرى المنطقة السفلية لتضع بيضها في جروحها وتستمتع الآن يرقاتها بلحمه الدافيء المليء بالعصارة..بينما عينه اختارت-ياللشاعرية-ذبابة الماشية لتضع بها يرقاتها وتمص رحيقها مع دمائها وتذيقه عذاب آيو التي أحبها زيوس فحولتها هيرا زوجته إلى بقرة وجعلت ذبابة الماشية تطاردها فتسومها العذاب كما في التحول لأوفيد وكتابات إسخيلوس..الذبابة التي أسرعت بكليوباترا خارج معركة أكتيوم البحرية كما وصفها شكسبير ترقص هنا في تجويف عينه السابقة.

فتح عينيه فزعا..يرى نفسه جرادة تحلق مع سرب كبير..يمتد إليه هو بالذات لسان طويل لحرباء فيلتف حوله ويجره إلى معدتها.

سيدي رجل الرمال أحضر لي حلما.

يفتح عينيه فزعا فيجد زوجته وقد انتهى من ممارسة الجنس معها قد تحولت إلى أنثى فرس نبي عملاقة تستدير برأسها وتقضم رأسه وبينما هي في فمها تحركت عيناه فرأتها تضع البيض على جسده حتى يجد صغاره ما يأكلون عندما يأتون للعالم.

اجعله الأجمل من كل الذي رأيته.

فتح عينيه فزعا فوجد نفسه يرقد في سريره..حاول أن يعتدل فلم يستطع..حرك أقدامه وذراعيه فسقط عنه غطاؤه ليطالع ثلاثة أزواج من الأرجل المفصلية تبرز من جانبيه..كان قد تحول إلى صرصار عملاق.

اعطه شفتين كالورد وأوراق البرسيم الناعم
وأخبره أن ليالي وحدته قد انتهت

—فيكتور هوجو،،البؤساء



***الحب: 
 هي لم تسأله؛لم تفكر حتى من أين وكيف تمكن من دخول الحديقة. لقد بدا من الطبيعي جدا لها أنه يجب أن يكون هناك...عندما انتهوا، عندما أخبر كل منهما الآخر بكل شيء،أراحت رأسها على ذراعه،وسألته:'ما اسمك؟' 'اسمي ماريوس'، قال لها. 'واسمك؟' 'اسمي كوزيت.''' 

***المعاناة: 
 انظر للأسفل،انظر للأسفل،لا تنظر إليهم في العين.انظر للأسفل،انظر للأسفل،أنت هنا حتى تموت.انظر للأسفل، انظر للأسفل، المسيح الطيب يسمع صلاتي.انظر للأسفل،انظر للأسفل،المسيح الطيب لا يهتم.

***الأمل:
 الأحمر،دماء الرجال الغاضبين.الأسود،ظلام العصور الماضية.الأحمر،عالم على وشك البزوغ.الأسود،الليل الذي ينتهي أخيراً. 

***الفلسفة:
 لا أحد كالمرأة يعرف أن يقول أشياءا والتي هي معا حلوة وعميقة التأثير،الحلاوة والعمق،هذا كله للمرأة؛هذه هي الجنة. 

***اليأس:
 حياتي التي ينسبها للرب بالأعلى.هل يمكن أن تكون هناك أشياء هكذا؟ فأنا قد كرهت هذا العالم،هذا العالم الذي طالما كرهني.

النظام الطبيعي



الهدف الرئيسي من عيش الكائنات الحية في جماعات كان ما يسمي بالإيثار المتبادل فهذه التحالفات التي شكلتها الكائنات الحية بما فيها الإنسان كان أساسها تبادل المصالح..ولكن دائما ما وجدت مخاطرة أن أحد أعضاء التحالف قد يحصل على فوائد دون تحمل أية تكاليف فيما يسمى بمشكلة المتقاعسين..ولا يمكن للكائنات أن تعيش في جماعات دون حل هذه المشكلة..كلما تعرض المتقاعسون للخطر أو الجوع هب بقية أعضاء التحالف لنجدتهم معرضين أنفسهم للخطر ومانحين إياهم بعضا من طعامهم الشحيح..وبمنظور تطوري سيكون المتقاعس أكثر نجاحا في البقاء والتناسل مقارنة بالأذكياء والمفعمين بالحيوية وستصير الجينات الخاصة بالتقاعس أكثر شيوعا وفي نهاية المطاف ستتحول الجماعة بأكملها إلى مجموعة من المتقاعسين..وقد حلت الجماعات هذه المشكلة بالاعتماد على التبادلية الصارمة والمحاسبة الاجتماعية وطريقة واحدة بواحدة إلا فيما يتعلق بالأبناء والأقارب على حسب درجة القرابة لاعتبارات أخرى لها علاقة بأن الجينات تحمي بقاءها وتمريرها إلى الأجيال التالية فيما يعرف بالجين الأناني..تستطيع باستخدام هذه النظرة العلمية البحتة والمجردة-التي تم اختذالها بشدة للتبسيط- التفريق بين النظام الاقتصادي الطبيعي القادر على الاستمرار والتطور والنظام الذي يبقي ويدعم وجود المتقاعسين وسيطرتهم على حركة المجتمع وأولوياته.

.....


 
إن الخرافات تجلب سوء الحظ 
-رايموند سموليان عام 5000 قبل الميلاد
****
 يكفيني وقت قصير أجلس فيه في مكتبة حقيقية أنظر لإبداعات البشر عبر التاريخ..هوميروس فرجيليوس..سقراط أرسطو..باموق محفوظ هيمنجواي يوسا ساراماجو ماركيز إيكو..دوستويفسكي تولستوي..دانتي شكسبير جوتة..أينشتين تسلا داروين ساجان..موراكامي مو يان..مجرد أمثلة فالقائمة لا تنتهي أبدا..أقول يكفيني وقت قصير لأدرك أن الوجود الإنساني أكبر وأعظم من أي تصورات محدودة وأنه إن كان للوجود البشري غاية فهي أكبر وأعظم من الصورة التي يرسمها كل جماعة من البشر عن أنفسهم.

...



السهولة التي تبعث بها برسالة إلى شخص ما اليوم لتصل إليه في ثوان -ربما ثانيتين-..أكره هذا..كنت أتمنى أن أعيش في حقبة سابقة تستغرق فيها الرسالة دهرا حتى تصل..أن يتمهل الشخص في كتابة رسالته لي ويبذل بعض المجهود ليجعلها تخرج بشكل ملائم..أن أقرأ من خلال الورق مشاعره في لحظة كتابتها..ربما كتبها وهو منفعل فأرى آثار تعرق يديه..ربما كتبتها بعد أن ارتدت ملابسها فأشم أثرا من العطر الذي وضعته..ربما كتبت في عجالة فيظهر الخط مهتزا أو عند غروب الشمس مع نسمة من الهواء المعطر برائحة حوض من الزهور فيبدو جميلا منمقا..أن تكون لدي القدرة على الاحتفاظ بهذا الأثر المادي الحقيقي فأستطيع أن أمسكه في يدي واسترجع كل تلك التفاصيل الصغيرة.. وأشعر بأثر الزمن عليه فكأنني هو أو كأنه أنا.

قدرات غير عادية (2015)



داود عبد السيد يزدحم دماغه بالأفكار والانطباعات واللوحات الفنية فيقرر تكديسها في فيلم واحد وهي تستوعب أكثر..يستطيع داود دائما أن يلتقط تلك الحياة الطبيعية الساحرة التي تدور على هامش حياتنا ومجتمعاتنا التي تشوهت تقاوم الموت، مرة أخرى كما فعل في رسائل البحر من قبل ويبدو أنه لكي تقول ما تريد في مجتمعنا فعليك أن تلجأ دوما للرمز كما فعل نجيب محفوظ..مطرب أوبرالي ممثلا للموسيقى الغربية وأزهري مع عوده كممثل للطرب الشرقي وأستاذ فنون جميلة رسام ومخرج أفلام وثائقية إيطالي يصور فيلما عن عاهرات موانيء البحر المتوسط فينتهي به الأمر وقد تزوج مصرية منهم-مجتازا الفروق الدينية والثقافية -يجتمع هؤلاء في بنسيون بسيط التصميم على بحر الأسكندرية تملكه سيدة اسمها ((حياة)) مع ابنتها ((فريدة)) التي هي فريدة بالفعل بقدراتها..هناك رسالة مزدوجة في اسم صاحبة البنسيون..الأولى تقول أن الأنثى هي الحياة-داود عبد السيد يعرف كيف يختار وكيف يخرج تلك الطبيعة المغوية المعقدة للأنثى من ممثلاته كما فعل من قبل مع بسمة في رسائل البحر-..والثانية من اجتماع الفن بأشكاله المختلفة داخل البنسيون المنعزل وتقول بأن الفن هو الحياة وأنه يعيش حالة من العزلة..هنا يصل((يحيى)) الذي هو طبيب موضوع البحث في رسالته عن القدرات الخارقة للبشر..الطفلة تمتلك قدرات التخاطر والاستبصار ويتضح بعد ذلك قدرتها على إشعال الحرائق ذهنيا..الطبيب يمتلك القدرة على تحريك الأشياء عن بعد وتحديد مواقع الأشخاص دون أن يدري..نلاحظ ارتباط هذه القدرات برغبة الشخص في الوصول لهدف ما أو شيء ما أو الرغبة في الحياة كما في حالة الطبيب والطفلة وكذلك الشيخ الصوفي في شوقه لله بينما اختفت هذه القدرات من الأم بعد أن فقدت شغفها في الحياة..أن الرغبة في الحياة والسعي وراء شيء ما يخلق لدينا قدرات غير عادية....هناك لوحتين فنيتين رئيسيتين أحدهما لعم ((حبيب الله))-لاحظ الاسم-فراش البنسيون النوبي وهو يرقص سكيرا على شاطيء البحر وسط الرياح ورذاذ الأمواج منتشيا والثانية للسيرك المتنقل بألوانه وبهجته الذي يمر أمام البنسيون وكأنه قافلة للسعادة..جميع الشخصيات تتناول الخمور وتدرك قيمتها جيدا في جعل الأمور أكثر سلاسة ورحابة وسهولة إما في حالات الاستمتاع والأمسيات الجميلة مع الموسيقى والحكايات الحميمية التي يناسبها النبيذ ، اجترار ذكريات ما أو النسيان يحتاج لشيء أقوى كالويسكي أو الفودكا..هناك إشارات لأسباب التشوه التي تأبى أن تترك هذا البنسيون المنعزل وقاطنيه أو أي شيء جميل باقي كالسيرك في سلام متمثلة في العصبية الدينية وموظفي الدولة ممثلين هنا في أجهزتها الأمنية..ينتهي الفيلم وأنت تدرك أن القدرة غير العادية هي قدرة الإنسان على أن ((يحيى))((حياة))((فريدة))..هي رحلة بحث عن حياة حقيقية .

بروفة الموت


الثانية بعد منتصف الليل.أتمدد على السرير في إحدى العيادات بمستوصف شعبي على أطراف القاهرة وفي يدي رواية لأجاثا كريستي مصفرة الأوراق ابتعتها من على الرصيف في طريقي إلى هنا بجنيهين،أحتاج من وقت لآخر لرواية كهذه. أنهض لأعد لنفسي كوبا من الشاي يساعدني على تمضية السهرة.أضيف الشاي من برطمان مايونيز قديم ثم السكر ثم أسحق بقدمي حشرة غريبة الشكل تتحرك على الأرضية،تنطفئ الغلاية فأصب المياه الساخنة وأحمل كوبي إلى الخارج.في الاستقبال أجد عم خليل الذي يقوم بدور الموظف وحارس الأمن يضع بطانية على كتفيه ويمدد قدميه على مقعد مقابل يشاهد مسلسل رخيص على التليفزيون.أقف في مدخل المستشفى وأشعل سيجارة أحصل منها على نفس عميق أتبعه برشفة من كوب الشاي وأعبث بهاتفي،بعد دقائق يتبعني عم خليل ويشعل سيجارته ويقول:((هل تعجز عن النوم يا دكتور؟)) أجيبه بنعم فيبدأ في الثرثرة وأنا أرد عليه بنصف انتباه،يقدم لي سيجارة أخرى ثم يشعلها لي ويقول:(( الفتاة التي كانت هنا منذ قليل أعرفها من عملي السابق في الملهى الليلي..كانت تعمل هناك وكنا نسميها*هناء القطر*))،اسمع اسمها فانطلق في الضحك فيتشجع أكثر ويبدأ في سرد حكايات عنها:((طيب أنت عارف يا دكتور..هناء هذه كانوا يعملوا عليها حفلة بخمسين جنيه..اه والله..ولما تأتي لي تحلف ألا تأخذ مليما..أصيلة بنت القحبة)) أقول له أننا كنا في حاجة لأن نعمل حفلة الليلة فينطلق في الضحك، أقول له أن يذهب فيجلب لنا بعض أقراص الطعمية والجبن والعيش الساخن فيأخذ النقود ويخرج.وقفت انتظر قدومه مشعلا سيجارة أخرى وأنا أتابع طابورا من النمل يتحرك على الحائط المقابل،أرى تلك السيدة العجوز تتقدم تجاهي من المدخل ممسكة بطفلة صغيرة في يدها ترتدي معطفا صوفيا ثقيلا أسودا على جوبة من نفس اللون تبرز كاحليها الضامرين المغطيين بجوارب ثقيلة وتلف رأسها بغطاء رأس بني اللون يبرز من تحته شعرها ناصع البياض ويبدو وجهها المجعد النحيف وأنفها الطويل الذي تبرز منه شعيرات صغيرة على النقيض تماما من الطفلة ببشرتها الناعمة وشعرها الفاحم القصير وفستانها الكاروهات الأحمر،تخبرني بأنها تريدني في كشف بالمنزل في اللحظة التي يدخل فيها عم خليل حاملا الأرغفة الساخنة يعلوها الطعمية والمخلل والجبن،أحضر الحقيبة من الداخل وأقول له أن ينتظرني فيبتسم وبينما أغادر التفت له لأجده يأخذ قضمة ممتلئة من قرص طعمية كبير فأسبه في سري.
 أسير مع المرأة والصغيرة في الشوارع المظلمة متفاديا القمامة والنقر الممتلئة بمياه المجاري،تأخذني من شارع إلى شارع أصغر يتناثر هنا وهناك شاب أو أكثر يدخنون الحشيش وآخرون يلتفون حول كلب جيرمان وصاحبه ومجموعة من الصبية يركلون كرة فيما بينهم ورجل يجلس في قهوة على الناصية مع حجر معسل أخير قبل أن يخلد إلى النوم. تأخذني إلى زقاق مظلم ثم إلى مدخل بيت يضيئه مصباح أصفر واهن ونصعد على سلم قذر إلى الدور الثالث،تطرق الباب فتفتح لنا امرأة أخرى تجاوزت السبعين بدورها وتقول لي أن اتفضل يا دكتور،أتقدم إلى صالة واسعة فتشير إلى غرفة في ركنها البعيد ويتقدمن دون أن تفلت العجوز يد الطفلة الصغيرة التي لم أسمع صوتها حتى هذه اللحظة،أدلف إلى الحجرة لأجد ستة من الرجال والسيدات العجائز على مقاعد في أركان الحجرة بينما ترقد عجوز ضامرة على فراشها،أتقدم منها وأجلس على مقعد مجاور لها،وجهها نحيف للغاية وقد انثنت شفتيها للداخل على فم خال تماما من الأسنان وتناثرت على رأسها شعيرات بيضاء قليلة وبشرة زرقاء شاحبة،تنظر ساهمة أمامها ثم تدير رأسها لي وتبتسم ابتسامة واسعة تضيق معها عينيها الذابلتين،أرفع غطاءها وأبدأ في فحصها،أضع السماعة على صدرها وأخبرها أن تأخذ نفسا فتهمهم وقد ضمت حاجبيها ثم تنطلق في الضحك وتعود إلى ضمهما مرة أخرى وهي تقول:((ااااوجع))..إنها مصابة بالألزهايمر، اسمع أحدهم يقول ذلك فأهز رأسي متفهما،أضع السماعة على صدرها مرة أخرى فلا أسمع أي شيء فأحركها تجاه قلبها لتلمس يدي صدرها الضامر فأشعر بالتقزز ولا أسمع شيئا..أتعجب وأنا أتحسس نبضها وأشعر بجلدها شديد البرودة فلا أجده،التفت إليهم لأجدهم يجلسون جميعا بوجوه زرقاء شاحبة ونظرة جامدة لا ينظرون لي،أعود فأنظر إلى العجوز الراقدة فأجد ابتسامة مفزعة واسعة تطل من فمها الفارغ وتنظر في عيني بقوة كأنها تقول:((نعم..الأمر كما تظن))..بعدها تمسك كلا المرأتين العجوزتين بيدي ويأخذونني إلى مقعد قريب وأنا مستسلم تماماً،تناولني إحداهما محقنا ممتلئا بمادة زرقاء داكنة وتقول لي عندما تكون جاهزا،أدس الإبرة في وريدي الودجي وأضغط المكبس،تظلم الدنيا فجأة وأرى العجائز الثلاث يمسكن بخيط رفيع،هؤلاء هن ربات الأقدار الثلاثة،هذه كلوثوهي الغازلة التي تغزل خيط الحياة،ثم لاسيسيس التي تقسم الرزق وأخيرا أتروبوس حاملة المقصات الرهيبة التي تقطع خيط الحياة فلا تتراجع ولا تلين تفتح الشفرات لأقصى مدى استعدادا لأن تطبقها،مرت أمام عيني لحظات كثيرة من حياتي،فكرت أنني سأكف عن الحياة منذ هذه اللحظة،حاول عقلي أن يخفف وطأة الأمر عني كما في الأزمات فعاد خائبا،هي لحظة الحقيقة إذا،لا يمكن لشيء أبدا أن يكون بهذا السوء، أطبقت مقصاتها فازداد الظلام إظلاما،ثم عم هدوء عجيب،هل هذا هو الموت؟أين الجنة والنار والثواب والعقاب؟ما أرعبني أكثر أنني مازلت أملك القدرة على التفكير والإدراك،هل سأظل هكذا للأبد،فجأة وجدتني أنسحب من الظلام نظرت فوجدت شيئا ما يحجز مقصات أتروبوس عن أن تنطبق ثم ارتجت الأشياء بقوة ووجدتني أجلس كما كنت على الكرسي بينما تفتح الطفلة الصغيرة فمي وتنزل به قطرات من الدم من الجرح النازف في معصمها..انتفضت في مكاني وانطلقت مهرولا تجاه باب الشقة ثم إلى الشارع ينظر لي المارة القليلون باستغراب وأنا اتعثر وأنهض،دلفت إلى المستوصف وأنا ألهث بشدة لأجد عم خليل ممددا كما كان وبجواره على المنضدة كوب من الشاي الثقيل والطعام البارد وقطعة من البسبوسة كان قد تركها لي.

الجمعة، 2 ديسمبر 2016

قصص القرية الغير مكتملة (1)



أعرف كيف أبقى وحيداً..لكنني رغم ذلك أحبك
صمت
نولد ونحن نظن ان آباءنا وأمهاتنا كائنات أبدية..فالأطفال يملكون حقيقة كل شيء
صمت
عندما كنا أطفالا كان يمكننا تقبل فكرة أن المستقبل مشرق ومليء بالمفاجآت..التي لابد أنها جميلة
صمت
******
https://www.youtube.com/watch?v=Riytk96ARlM

صمت
*****

استيقظ ((ركابي))من النوم ليجد ان التمثال الذي أمسى ينحت الأجزاء النهائية منه حتى منتصف الليل أصبح وقد دبت فيه الحياة, يقف عاريا في الزاوية التي تركه فيها بالامس وعلى وجهه نظرة ذاهلة. في البداية ظنه لصا ما ولكن ها هي التفاصيل الدقيقة التي أمضى ليال طويلة يصقلها بينما يطالع نفسه عارياً في مرآة بطول الحائط,نظر إلى نسخته يحاول استيعاب ما يحدث,لقد خلق هذا التمثال على شاكلته وأضاف إليه ما تمناه في جسده يوما ما,كان قد أضاف أجزاء من جثث متعددة ثم قام بتثبيتها بالجص وصنع هيكل خارجي يشبهه وقام بطلائه فبدا الشكل النهائي أكثر تناسقا ولم يحتج الخيوط الجراحية والتي كانت ستخلف ندوباً قبيحة,لا يعرف كيف دبت الحياة فيه كما لا يعرف كيف دبت الحياة في الخلية الأولى من مليارات السنين,يطالع أمامه الآن النقيض الحي لمسخ فرانكنشتاين.
توجه ركابي إلى غرفته وأخرج حقيبة متوسطة الحجم من دولابه ملأها ببعض الملابس  ثم ذهب إلى حمامه وأحضر فرشاة أسنانه وماكينة حلاقة ومزيلاً للعرق,حمل الحقيبة إلى سيارته وانطلق إلى الصحراء,كان قد صنع هذه النسخة الباردة من نفسه حتى يستطيع أن يعود إلى نفسه القديمة عالية الحساسية,ترك البرودة التي اكسبته إياها سنوات طويلة من الأزمات التي علمته بالتجربة تناولها بموضوعية وواقعية,نجح بالتدريج في تجاوزها ولكن خياله الذي دائماً ما عذبه بالتفاصيل كان قد ذوى وانحسر,,حينها شعر بانه إنسان مفرغ من أي معنى,أو قيمة,كان قد نجح في الواقع وانهزم في عقله,النجاح بالنسبة له يكمن في القدرة على الاختيار اولاً,اختار هو دوما ما فرضته الاحتمالات ولم يفكر ان يسبح عكسها أبداً ليعيش كما تمنى في صباه وشبابه,أن يعيش ليتذوق الجمال ,أن يتخلص مما رضخ له من قواعد وقوانين في حياته الخاصة تحت ضغط المجتمع حتى يكون مقبولاً قادرا على التواجد به بينما يتمزق هو من الداخل ويرى السنين تنسال من بين يديه, حتى اللحظة التي دبت فيها الحياة في هذا التمثال فقرر ألا ينتظر أكثر..حمل حقيبته وخرج إلى عائدا  إلى قريته.
صمت
*****
https://www.youtube.com/watch?v=wwNAwkulMF0
صمت
*****

في قريتي كانت هناك نخلة..هذه النخلة ليست بطويلة وليست بقصيرة ولكن ثمارها شهية..شهية جدا..لم آكل منها من قبل لكن الحكايات عن ثمراتها لم تنته أبدا..عن قشرتها الرقيقة الناعمة المخضبة بالأحمر التي تنكسر برفق وسهولة بضغط خفيف من أسنانك لتسيل حلاوتها في فمك فيغيب عقلك..عن استدارة جذعها بخفة ورشاقة..عن غزارة سعفها وليونته وتمايله شوقا..عن عنقودين كبيرين يتدليا منها ناهدين مستكينين في دعة يمامتين وخفة فراشتين وقوة مهرتين..لكي تصل لهذه النخلة هناك عدة مشاكل.. هي بعيدة..وحيدة..يحرسها نفر من الجن أقنعها أنها له وحده..هو وحده هناك ليستمتع بعسلها ولبنها..تقع في منتصف أرض غزيرة الغاب استوطنها الأفاعي والزواحف..والطريق إليها يمر بالمقابر المليئة بوحوش كلاب القرية والأرواح المضطربة التي لا تهدأ ولا تجد لها مستقرا..دعوت الله أن يحولني إلى طير فأحلق إليها لكنه حولني إلى سمكة بلطية كبيرة رائعة الجمال فاستطعت أن أصل إليها عن طريق الترعة التي تمر بجوارها ويسقط فيها تمرها..فالآن أستطيع أن أراها ولا أستطيع أن آكل منها
صمت
******
https://www.youtube.com/watch?v=WRSEpS2veCI
صمت
******
 
سأحكي أنا هذه القصة فاستمعوا إليّ..عندما كنت طفلة صغيرة لم تتجاوز السابعة حدثت لي..ذات ليلة استيقظت من النوم فلم أجدني في سريري..اتلفت حولي فلا أجد أبي ولا أمي..أدرت رأسي وعلى ضوء لمبة الجاز الخافت استطعت أن أرى أخوالي ينامون هنا وهناك على الأرض وفوق كنبات في أركان الحجرة..تملكني هدوء عجيب..كأنني أحلم..نهضت..جذبت شال جدتي الأسود الكبير ولففت به جسدي....كان الدوار الكبير المبني من الطوب النيء دافئا رغم برودة الجو بالخارج..حملت خفي وخرجت من بابه الضخم ووقفت أرمق الجرن الذي يقع بين بيت جدتي وبيتنا والبيوت الطينية المتراصة على جانبيه..شعرت بالبرد يزحف إلى ظهري وجانبي فضممت الشال أكثر واكثر وانا أرى كل الكائنات من قصص جدتي تنتشر في أركان الجرن الواسع..كالمسحورة تقدمت..في بدايته كان يقف المارد وهو جني ضخم طويل القامة..وقف ينظر لي من اعلى وجسده يشع بضوء شاحب..ضحك لي فرأيت أنيابه القوية تلمع في ضوء القمر فأغمضت عيني وتابعت المسير فلم يمسني بسوء..بعدها رأيت في ركن الجرن البعيد حورية رائعة الجمال تشع ببريق كاللؤلؤ وعينين  زمرديتين في لباسها الأبيض الطويل تقف هناك على حافة الجرن تنادي باسم أحدهم وتكرره وتكرره..وعندما خرج إليها كالمسحور استطالت واستطالت كالأفعى ومدت عيون حمراء وأنياب قاطعة إلى رأسه فالتهمتها في لمح البصر..في أحد الأركان رأيت بشريا عاريا منحنيا على شيء ما..عندما اقتربت منه استطعت أن أرى ظهره الأحدب وجلده السميك المجعد..إنه غول كما وصفته جدتي..لم أحاول النظر إلى وجهه أو لما يأكله فأنا أعرف ما سأراه..استدرت لأجد فتاة  صغيرة ملتفة في شال أسود تقف في مواجهتي..أتحرك فتتحرك  ألوح بيدي فتلوح..رأيت لمحة من وجهها على ضوء القمر فعرفت أنها قرينتي في العالم السفلي..أسرعت الخطا مبتعدة عنها ولففت حول كومة كبيرة من من القش تغطي أقفاصا حديدية بداخلها أطفال صغار من خلفها تل عال من الأتربة تجلس عليه أمنا الغولة ترتدي السواد ويغيب وجهها في ظلال غطاء رأسها الاسود تمد يدا مخلبية تجاه أحد الأقفاص لتفتحه..فزعت فهرولت تجاه باب دارنا..تسللت إلى الدار من شباك استطيع أن أمد بيدي الصغيرة لافتحه من الداخل وأنا أشعر بيد أمنا الغولة تقترب ثم اغلقته خلفي بقوة وهرولت إلى غرفة أبي وأمي ودخلت إلى حضن أمي الدافيء.

صمت


******
 
عندما تقون بطعن أحدهم في الصدر فلا تترك السكين هناك قبل أن ترحل.. وعندما يقوم غراب بنبش أحد القبور الواقعة على أطراف القرية فلا تترك القبر مكشوفاً..لا تترك قطرات من المياه تتسرب إلى الجثة الراقدة أسفله....حين كنا صغاراً كنا نذهب إلى بيت الجدة العجوز لتحكي لنا تلك الحكايات المرعبة..تحكي لنا عن الحورية رائعة الجمال التي كانت تتبدى لشباب القرية في الخلاء ليلا بينما يقومون بري أراضيهم أو بحراسة شونة الغلال ثم يسيرون وراءها كالمسحورين فيجدونهم في الصباح غارقين في الترعة القبلية دون جلودهم..تحكي عن الذئب الذي جلس أسفل شباكها في ليلة ما يتكلم بلغة غريبة شيطانية فاستيقظت لتجد نفسها وقد عادت شابة مرة أخرى ولكنه عاد ليطالبها بالثمن..تتسع عيناها الضيقتان بشدة ونحن نسألها فاغري الأفواه عن هذا الثمن فلا تقول لنا أبداً..تحكي عن رجال القرية الذين خرجوا إلى الصحراء القريبة ومعهم شيوخ يخاطبون الجان بحثاً عن المقابر العامرة بالكنوز فاستيقظت زوجة كل منهم في يوم ما بعد شهر كامل  لتجد جثة زوجها الخالية من الدماء ترقد بجوارها..كانت تحكي لنا كل هذا وأكثر وكان لديها معيناً لا ينضب من هذه الحكايات.
كانت هناك كذلك قصة ذلك الإقطاعي القديم الذي كان يمتلك القرية وما حولها..كان رجلاً وسيما قويا يمتلك شاربا ضخما ليس له مثيل..عندما كان شاباً كان يشق الطرقات الزراعية كل صباح عاري الصدر على ظهر جواد دون سرج وكن جميعا يرمقنه بنظرات الإعجاب من وسط الحقول..المهم أنه في أحد الأيام أعلن الفلاحون عصيانا عليه بعد أن اشتد الفقر والجوع عليهم ولم يعودوا يجدون حتى ما يطعمونه لأطفالهم..قام بتعذيبهم بشدة وحتى الموت لكنهم لم  يستجيبوا بل أنهم قاموا بقتل بعض الخفر وحرق المحاصيل ومخزون الغلال وتجرأوا وهاجموا سراي الباشا الكبير..وفي ليلة سوداء كالكحل غاب عنها القمر خلف سحب كثيفة انطلق الخفر يقتحمون بيوت أهل القرية ينتزعون الأطفال من أحضان أمهاتهم بينما قام آخرون بتعليق المشانق في الأشجار المحيطة بساحة القرية..كانت عشية العيد وقد خلد هؤلاء الأطفال للنوم وهم يحلمون بملابسهم الجديدة وألعابهم التي سيحصلون عليها في الصباح..فزعت القرية بأكملها خلف أطفالها وتبعوا الخفر وهم يصرخون ويولولون ليجدوا الباشا الكبير يقف في منتصف الساحة وأسفل شاربه ابتسامة مقت ومن عينيه تطل كل شرور الدنيا وقد طوق الخفر الساحة وهم يحملون المشاعل والأطفال يقفون في أحد أركانها يبكون ويرتعدون بشدة..لم ينطق الباشا بكلمة واحدة وإنما اشار برأسه فاقتاد الخفر الأطفال وكان عددهم إثنا عشر إلى المشانق القريبة وأحاطوا رقابهم الصغيرة الضعيفة بحبالها الغليظة بعد أن أوقفوهم على كراس عالية من الخشب..ارتفع صراخ اهل القرية وتعالى النشيج والبكاء وهم ينظرون إلى الأطفال الذين تطل من عيونهم نظرة غير فاهمة وأخذوا يتوسلون ويعتذرون ولكن الباشا أدار وجهه إلى الأطفال وأشار إلى الخفر ليسقط إثنا عشر كرسيا ويتدلى إثنا عشر طفلا من الأشجار يهتزون بعنف كالدجاج المذبوح حتى تسكن حركتهم تماما وقد ضاقت العقد حول رقابهم..في هذه اللحظة ارتفع صراخ امرأة عجوز مكسوة بالسواد ويتناثر شعرها الأبيض الأشعث على جانبي رأسها من أسفل غطاء رأس ممزق :((ملعون !..ملعون أنت ونسلك !))..ثم بدأت تتكلم ببطء:((سيستيقظ هؤلاء الأطفال عشية يوم العيد..سيستيقظون ليستعيدوا فرحتهم التي سلبتها..عندما يعبر غراب أسود على قبورهم ويقوم بنبش أحدها..عندما تسقط قطرات المطر لتشق رحم الارض وتتسرب إلى أجسادهم..عندها..سيعودون))..كانوا يلقبون هذه المرأة بالمبروكة وكانوا يخشونها كثيرا ويعلمون أنها تمارس السحر وتتصل بالأرواح..كانوا يعلمون هذا ولكن الباشا لم يكن يعلمه..قال: ((ابتعدي من هنا أيتها المرأة المخرفة..ابعدوها))..ولكنه رأى النظرة التي كانت تطل من عينيها..كانت نظرة مخيفة وصادقة لو كان لك ان تقول هذا..فزع الباشا وارتبك بشدة ثم هرع إلى حصانه وامتطاه وانطلق إلى السراي الكبير بسرعة كبيرة..بعدها أمر أن يتم دفن الجثث في مكان جاف وأن يتم بناء سقف فوقها لمنع الأمطار من الوصول إليها..كذلك امر الخفر بأن يقوموا بقتل جميع الغربان في القرية فأقاموا المصائد في كل مكان وانطلقوا يقتلونها ببنادقهم وقاموا بفرض حراسة شديدة على المقبرة خاصة ليلة العيد..لم يحدث أن شوهد غرابا يحلق فوق هذه القرية لزمن طويل وكان يتم تجديد سقف تلك المقبرة المنعزلة على اطراف القرية باستمرار حتى لا تصل مياه الأمطار إليها..استمر الأمر لأجيال وأجيال حتى بعد موت الباشا بعد ان ظل الشعور بالذنب يعذبه طوال حياته وهو يتخيل جثث هؤلاء الاطفال تحيط به وتبدأ في إنزال لعنتها عليه بأبشع الطرق وتابع أبناؤه وأحفاده تنفيذ ما بدأه ولكن الاجيال الجديدة منهم نسيت الأمر وآخرون قالوا أنها خرافات وتزوجوا واختلطوا بأهل القرية وبعد زمن طويل لم يعد أحد يعلم أين دفن هؤلاء الأطفال بالضبط أو حتى يهتم بقتل الغربان التي تحلق فوق القرية.
صمت

*******
https://www.youtube.com/watch?v=wsQ01UF1Ni0
صمت