أنا

أنا

الخميس، 29 ديسمبر 2016

بروفة الموت


الثانية بعد منتصف الليل.أتمدد على السرير في إحدى العيادات بمستوصف شعبي على أطراف القاهرة وفي يدي رواية لأجاثا كريستي مصفرة الأوراق ابتعتها من على الرصيف في طريقي إلى هنا بجنيهين،أحتاج من وقت لآخر لرواية كهذه. أنهض لأعد لنفسي كوبا من الشاي يساعدني على تمضية السهرة.أضيف الشاي من برطمان مايونيز قديم ثم السكر ثم أسحق بقدمي حشرة غريبة الشكل تتحرك على الأرضية،تنطفئ الغلاية فأصب المياه الساخنة وأحمل كوبي إلى الخارج.في الاستقبال أجد عم خليل الذي يقوم بدور الموظف وحارس الأمن يضع بطانية على كتفيه ويمدد قدميه على مقعد مقابل يشاهد مسلسل رخيص على التليفزيون.أقف في مدخل المستشفى وأشعل سيجارة أحصل منها على نفس عميق أتبعه برشفة من كوب الشاي وأعبث بهاتفي،بعد دقائق يتبعني عم خليل ويشعل سيجارته ويقول:((هل تعجز عن النوم يا دكتور؟)) أجيبه بنعم فيبدأ في الثرثرة وأنا أرد عليه بنصف انتباه،يقدم لي سيجارة أخرى ثم يشعلها لي ويقول:(( الفتاة التي كانت هنا منذ قليل أعرفها من عملي السابق في الملهى الليلي..كانت تعمل هناك وكنا نسميها*هناء القطر*))،اسمع اسمها فانطلق في الضحك فيتشجع أكثر ويبدأ في سرد حكايات عنها:((طيب أنت عارف يا دكتور..هناء هذه كانوا يعملوا عليها حفلة بخمسين جنيه..اه والله..ولما تأتي لي تحلف ألا تأخذ مليما..أصيلة بنت القحبة)) أقول له أننا كنا في حاجة لأن نعمل حفلة الليلة فينطلق في الضحك، أقول له أن يذهب فيجلب لنا بعض أقراص الطعمية والجبن والعيش الساخن فيأخذ النقود ويخرج.وقفت انتظر قدومه مشعلا سيجارة أخرى وأنا أتابع طابورا من النمل يتحرك على الحائط المقابل،أرى تلك السيدة العجوز تتقدم تجاهي من المدخل ممسكة بطفلة صغيرة في يدها ترتدي معطفا صوفيا ثقيلا أسودا على جوبة من نفس اللون تبرز كاحليها الضامرين المغطيين بجوارب ثقيلة وتلف رأسها بغطاء رأس بني اللون يبرز من تحته شعرها ناصع البياض ويبدو وجهها المجعد النحيف وأنفها الطويل الذي تبرز منه شعيرات صغيرة على النقيض تماما من الطفلة ببشرتها الناعمة وشعرها الفاحم القصير وفستانها الكاروهات الأحمر،تخبرني بأنها تريدني في كشف بالمنزل في اللحظة التي يدخل فيها عم خليل حاملا الأرغفة الساخنة يعلوها الطعمية والمخلل والجبن،أحضر الحقيبة من الداخل وأقول له أن ينتظرني فيبتسم وبينما أغادر التفت له لأجده يأخذ قضمة ممتلئة من قرص طعمية كبير فأسبه في سري.
 أسير مع المرأة والصغيرة في الشوارع المظلمة متفاديا القمامة والنقر الممتلئة بمياه المجاري،تأخذني من شارع إلى شارع أصغر يتناثر هنا وهناك شاب أو أكثر يدخنون الحشيش وآخرون يلتفون حول كلب جيرمان وصاحبه ومجموعة من الصبية يركلون كرة فيما بينهم ورجل يجلس في قهوة على الناصية مع حجر معسل أخير قبل أن يخلد إلى النوم. تأخذني إلى زقاق مظلم ثم إلى مدخل بيت يضيئه مصباح أصفر واهن ونصعد على سلم قذر إلى الدور الثالث،تطرق الباب فتفتح لنا امرأة أخرى تجاوزت السبعين بدورها وتقول لي أن اتفضل يا دكتور،أتقدم إلى صالة واسعة فتشير إلى غرفة في ركنها البعيد ويتقدمن دون أن تفلت العجوز يد الطفلة الصغيرة التي لم أسمع صوتها حتى هذه اللحظة،أدلف إلى الحجرة لأجد ستة من الرجال والسيدات العجائز على مقاعد في أركان الحجرة بينما ترقد عجوز ضامرة على فراشها،أتقدم منها وأجلس على مقعد مجاور لها،وجهها نحيف للغاية وقد انثنت شفتيها للداخل على فم خال تماما من الأسنان وتناثرت على رأسها شعيرات بيضاء قليلة وبشرة زرقاء شاحبة،تنظر ساهمة أمامها ثم تدير رأسها لي وتبتسم ابتسامة واسعة تضيق معها عينيها الذابلتين،أرفع غطاءها وأبدأ في فحصها،أضع السماعة على صدرها وأخبرها أن تأخذ نفسا فتهمهم وقد ضمت حاجبيها ثم تنطلق في الضحك وتعود إلى ضمهما مرة أخرى وهي تقول:((ااااوجع))..إنها مصابة بالألزهايمر، اسمع أحدهم يقول ذلك فأهز رأسي متفهما،أضع السماعة على صدرها مرة أخرى فلا أسمع أي شيء فأحركها تجاه قلبها لتلمس يدي صدرها الضامر فأشعر بالتقزز ولا أسمع شيئا..أتعجب وأنا أتحسس نبضها وأشعر بجلدها شديد البرودة فلا أجده،التفت إليهم لأجدهم يجلسون جميعا بوجوه زرقاء شاحبة ونظرة جامدة لا ينظرون لي،أعود فأنظر إلى العجوز الراقدة فأجد ابتسامة مفزعة واسعة تطل من فمها الفارغ وتنظر في عيني بقوة كأنها تقول:((نعم..الأمر كما تظن))..بعدها تمسك كلا المرأتين العجوزتين بيدي ويأخذونني إلى مقعد قريب وأنا مستسلم تماماً،تناولني إحداهما محقنا ممتلئا بمادة زرقاء داكنة وتقول لي عندما تكون جاهزا،أدس الإبرة في وريدي الودجي وأضغط المكبس،تظلم الدنيا فجأة وأرى العجائز الثلاث يمسكن بخيط رفيع،هؤلاء هن ربات الأقدار الثلاثة،هذه كلوثوهي الغازلة التي تغزل خيط الحياة،ثم لاسيسيس التي تقسم الرزق وأخيرا أتروبوس حاملة المقصات الرهيبة التي تقطع خيط الحياة فلا تتراجع ولا تلين تفتح الشفرات لأقصى مدى استعدادا لأن تطبقها،مرت أمام عيني لحظات كثيرة من حياتي،فكرت أنني سأكف عن الحياة منذ هذه اللحظة،حاول عقلي أن يخفف وطأة الأمر عني كما في الأزمات فعاد خائبا،هي لحظة الحقيقة إذا،لا يمكن لشيء أبدا أن يكون بهذا السوء، أطبقت مقصاتها فازداد الظلام إظلاما،ثم عم هدوء عجيب،هل هذا هو الموت؟أين الجنة والنار والثواب والعقاب؟ما أرعبني أكثر أنني مازلت أملك القدرة على التفكير والإدراك،هل سأظل هكذا للأبد،فجأة وجدتني أنسحب من الظلام نظرت فوجدت شيئا ما يحجز مقصات أتروبوس عن أن تنطبق ثم ارتجت الأشياء بقوة ووجدتني أجلس كما كنت على الكرسي بينما تفتح الطفلة الصغيرة فمي وتنزل به قطرات من الدم من الجرح النازف في معصمها..انتفضت في مكاني وانطلقت مهرولا تجاه باب الشقة ثم إلى الشارع ينظر لي المارة القليلون باستغراب وأنا اتعثر وأنهض،دلفت إلى المستوصف وأنا ألهث بشدة لأجد عم خليل ممددا كما كان وبجواره على المنضدة كوب من الشاي الثقيل والطعام البارد وقطعة من البسبوسة كان قد تركها لي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق