أنا

أنا

الخميس، 29 سبتمبر 2016

المدينة المشوهة: مسز روبنسون 1 (الحلقة الثانية)


ما أراه في خيالي,ما أشعر به من حزن مقيم أو فرحة غير مبررة وتلك الحاجة للتسامح مع الذات من أجل الاستمرار,ذلك الجمال الذي يثير في النفس كل المخاوف يطالعني في بداية كل أمسية من شرفتي المطلة على ميدان المحافظة,الأفق الأحمر خلف تمثال أم كلثوم والأشجار تتمايل في الميدان مع لسعة خفيفة من البرد,موسيقى بحيرة البجع تتسرب من الداخل, أمامي كوب من الشاي الثقيل الساخن وفي يدي أجندتي القديمة أكتب,أكتب دون هدف وإلى حيث يأخذني ذهني,متى لا يتحول الأمل إلى خيبة,لماذا لكلمة الأمل والألم نفس الحروف,أعني كإنسان كيف أعرف أنني سأنجو واحتمل إذا لم اختبر,إذا استيقظت غدا لأجد الدولة قد انهارت واختفت,عندما أسير وحيدة في شارع مظلم ووقت متأخر مع احتمال أن يظهر هذا الشخص فجأة من اللامكان ليغتصبني ويشوه وجهي واضطر لمواجهة الحياة بعدها,أن أعبر الطريق لتصدمني عربة ما بقوة فأموت أو لا أموت,إذا أصابني أنا بالذات مرض مميت غامض ليس له علاج بعد,أن يقرر أحد أعضائي الحيوية التوقف فجأة عن العمل,هذا يحدث للكثير من البشر فلماذا لا يحدث لي,عندما أمر بلحظة سعيدة أجدني رغماً عني أفكر في الموت, وأنه ليس مخيفًا إلا لمن يحذوه الأمل بأن يحيا حقاً يوماً ما,ها أنا أجلس هنا وحيدة في الظلام أرتدي قميصاً وبنطلوناً للتعرق واسعين حافية القدمين,عندما أقول أنني وحيدة فأنا أعني ذلك,أعني أن معظم علاقاتي من هذا النوع القوي لكنه مؤقت,هذا الشاب الفقير الذي يصغرني والذي قريبا سيتزوج وينتهي هذا الشيء بيننا,هذا الرجل في منتصف العمر نتفاهم جيداً ولكنه لا ينظر لي بهذه الطريقة..روايات دوستويفسكي في الشتاء بينما تمطر بالخارج وموسيقى كلاسيكية تتسرب من الراديو وأنا شابة صغيرة نحيفة أتمدد على أرضية الغرفة في الصالة الواسعة,والدي يقرأ جريدة الأهرام مرتدياً روبه الصوفي في الشرفة وأمامه فنجان من القهوة المركزة ذات الرائحة المنعشة والشارع الهاديء يتحرك بالأسفل يرفع رأسه تجاهي ويبتسم بحنان.هذه الشقة هي كل ما طلبته وكل ما حصلت عليه بعد وفاة والدي,والدي الطبيب الشهير ابن البكوات,تزوجت والدتي بعد موته بشهور وتركتني وحيدة في هذه الشقة وهو كل ما تمنيته يوماً,أن أحصل على مكاني الخاص,هذا المكان بالتحديد.

قصر إبراهيم بك الشناوي يواجه شقتي عند تقاطع شارع الجيش وقناة السويس وقد تحول هو نفسه إلى مقر لمديرية الأمن يوماً ما ففقد جماله,إبراهيم بك الشناوي ابن محمد باشا الشناوي العضو السابق بكل من مجلسي الشيوخ والنواب والعضو البارز بالوفد وأحد المقربين من الزعيم التاريخي للوفد سعد باشا زغلول ,محمد بك الشناوي أكبر أثرياء المنصورة والذي عاش بقصر آخر هو قصر الشناوي الذي كان يطل على النيل قبل أن تحاصره تلك الكتل الأسمنتية الخرسانية القبيحة التي شيدت على جسد النيل بعد ردم أجزاء منه القصر يقع حاليا مهملاً في شارع الجمهورية ,بدأت أعمال البناء به عام 1928 وانتهت في1930,القصر مبني على الطراز الإيطالي وتبلغ مساحته 4164 متر مربع, وهو مكون من بدروم وطابقين وتم استيراد السلم الذي يربط بين الطابقين بكامله من إيطاليا,سر جماله الحقيقي أنه شيد من الخشب المعشق بدون أي مسامير, ملحق به حديقة وملاعب تم سلبها والبناء عليها,القصر تم تشييده على يد مهندسين وعمال إيطاليين,حصل القصر على شهادة من موسوليني شخصياً كأجمل قصر تم تشييده خارج إيطاليا بيد إيطاليين  .حكى لي والدي أن هذا القصر قد استقبل سعد باشا زغلول ومصطفى باشا النحاس بحضور جدي وأنه قد حضر بنفسه عندما غنت به أم كلثوم في حفل زفاف زكي بك الشناوي,كان جدي مدعواً دائما إلى الحفلات التي كان يقيمها محمد بك ثم ابنه زكي بك ودائماً ما اصطحب أبي إليها وهناك التقى بأمي التي كانت ابنة أحد كبار الملاك بمركز نبروه.استقبل القصر كذلك محمود باشا النقراشي رئيس الوزراء, وكذلك أحمد باشا ماهر, وقد حضر به إبراهيم باشا عبد الهادي رئيس الوزراء جنازة المرحوم زكي الشناوي عند وفاته.
كنت قد غافلت الحارس وتسللت ذات مرة إلى هذا القصر مع شاب التقيته في ليلة ما وكنت ثملة للغاية ,مارسنا الجنس على أرضيته المتربة وأنا اتأمل اللوحات الزيتية على السقف المعلق على ضوء السيارات والمحال الخافت الذي يتسرب من خصاص النوافذ ,أتذكر أبي والدنيا تدور بي,تجولنا بعدها في جنباته على ضوء ولاعتي وهو يتبعني غير مكترث,تأملت اللوحات الزيتية والتحف التي كستها أتربة كثيفة والحوائط المتربة ذات اللون العاجي الباهت,كان لضوء النيران تأثيراً أحببته دائماً,صعدنا إلى الطابق الثاني على السلم الإيطالي الشهير ودخلنا إلى إحدى أجنحة الإقامة,على ضوء ولاعتي رأيت صورة فوتوغرافية بالأبيض والأسود في برواز فخم أعلى سرير خشبي عريض ,طلبت منه أن يمارس معي الجنس ثانية في غرفة زكي بك الشناوي التي نام فيها مع زوجته للمرة الأولى .

الابنة الصغرى التي نسيها الجميع ونسيتهم,الابنة متوسطة الجمال التي لم تتزوج رغم الحسب والنسب والتي شكلت عبئاً على الجميع,وحيدة في هذه الشقة الواسعة مرتفعة الأسقف والنوافذ الواسعة على الطراز الإنجليزي والتي هي نفحة حقيقية من الزمن القديم,مدفأة صغيرة من الرخام الأبيض في صدر الصالة يعلوها وجه روماني منحوت في أربعة أشكال من عدة زوايا في الجزء البارز منها قد علقت الأتربة بثناياهم ولوحة زيتية كبيرة تحمل صورة جدي بالزي الملكي الرسمي وثريا فخمة مغبرة تحلق في فضاء عريض من التحف واللوحات والمقاعد كلاسيكية الطابع,في أوائل الأربعينات من عمري أستطيع أن أتحمل تكاليف حياتي بالكاد ولكنني أملك شقة كهذه ,هذا هو النصر الوحيد في حياتي.

على مقربة من منتصف الميدان أيضاً يقع مسجد النصر ككاتدرائية تحاول التظاهر بالقدم والعراقة رغم أنه شيد عام 1954ويظهر من بعيد تمثال رمسيس الثاني الذي وضعوه حديثاً في مقابل الاستاد الرياضي,تبدو هذه الشوارع الرئيسية أنيقة نوعاً ما ولكنك تدلف يميناً أو يساراً فيغمرك القبح والتشوه الذي يسكن الشوارع الداخلية لهذه المدينة,كالصراصير تزحف على الميادين والشوارع الرئيسية في الصباح ثم تعود إلى مكامنها في المساء,أعمل موظفة بقصر الثقافة محاطة بمجموعة من الاشتراكيين والناصريين ضيقي الأفق المصابين بالبارانويا تجاه كل شيء بالإضافة إلى مجموعة من الجهلة غير المؤهلين حتى لتنظيف المكان,أنا المرأة الوحيدة الغير محجبة في المكان,هذا جعل الكثيرين يحاولون التقرب مني,السيدة الوحيدة المتقدمة في السن التي يبدو عليها لمسة رقي واضحة وعز زائل والتي تسربت عنها قصة أنها عاشت رفيقة لإحدى قادة الحركة الطلابية اليسارية في السبعينات,كانت هذه مرحلة عشت فيها وحيدة بالقاهرة وآمنت بمباديء ما احتقرتها بعدها بشدة,الحركة الشيوعية وباء يجب التطهر منه متى ظهر أولاً بأول.

كنت قد عدت من عملي مبكراً فاليوم هو الخميس,تناولت الغداء وحصلت على قيلولة طويلة استيقظت بعدها لأعد الشاي واجلس في الشرفة أكتب هذه الكلمات وانتظر هذا الشاب,أراه من الشرفة يتحرك في الميدان ليعبر الطريق وسط طالبات المدارس بزيهم الموحد, القميص الأبيض والجوب الكحلي,ينظر لأعلى,يراني فيبتسم,أرى البواب ينظر إليه في استياء ثم يرفع رأسه تجاه شرفتي ويعيدها هو يهزها يميناً ويساراً.أنا مسز روبنسون من فيلم the graduate ولكن لم يوجد يوماً مستر روبنسون,السيدة المتزوجة المتقدمة في السن التي تحاول امتصاص حيوية وقوة هذا الشاب اليافع ونضارته,لم أتزوج يوماً ما ولكنني عشت كذلك,نحن السيدات الاكبر نكون يائسين,سهل الحصول علينا,شاكرين.عندما سألته عن سر تعلقه بي اجاب أننا الأكبر في السن نعرف جيدا ما نريد,النساء في سني يكونون أكثر جرأة,مستثارين دوماً,عظماء في السرير وأكثر مغامرة,في رأيي أنا هم ينبهرون بتلك العلاقات القصيرة التي لا تحمل أي التزامات بدون أي مشاكل أو احتياجات تفرض عليهم ولا يستطيعون اشباعها,ربما هذه المشاكل نفسها هي التي انكسر لها قلبهم من قبل مع فتيات أصغر,ياللمساكين,يخبرني أن الحديث معي أسهل,أنني أستطيع التعامل مع الأمور بقدر كبير من الحكمة والنضج ولا أشعره بأي ضغوط,كل هذا يمكن أن يكون صحيحاً ولكنه بالتأكيد قد شاهد الكثير من الMILF porn.

استقبلته على الباب بقبلة طويلة ثم توجهت إلى الداخل,حصلت على دش دافيء سريع وارتديت ملابس داخلية بيضاء وروباً أبيضاً شفافاً وأبقيت شعري مبتلاً دون ان أصففه كما يحب,وعندما عدت للصالة وجدته قد أشعل المدفأة وجلس أمامها متربعاً يحمل في يده كأساً من النبيذ الأحمر من الزجاجة بجانبه وبشرته السمراء تلمع عاكسة وهج النيران.

الثلاثاء، 27 سبتمبر 2016

في عيادة الأطفال


في عيادة الأطفال العامة والرسومات على الحائط للمأمور وودي والديناصور ركس ومستر بطاطس والمخلوق الفضائي ثلاثي العيون لا تتناسب مع هيئة الأمهات بملابسهم الرخيصة وخليط الجهل والفقر الذي يبدو على ملامحهم غير المتكلفة, يحملون أطفالهم أو يمسكون بأيديهم في ملابس مشابهة ووجوه شاحبة مسمومة وإن اشتركوا مع أمهاتهم في النظرة البلهاء ,هناك صفة مشتركة بين الجميع هي غياب التناسق بين أجزاء الجسد,غياب التناسق في الملامح,تجد طفلا هزيلا برأس كبيرة وعيون جاحظة وآخر بأسنان بارزة وجذع أطول من ساقيه,تدخل سيدة قصيرة جدا يصل ابنها ذو الاربع سنوات إلى مستوى صدرها وأخرى ممتلئة جدا تحمل رضيعها فيبدو كزائدة دهنية تبرز من كتلة بروتينية عملاقة,غياب التناسق يعني غياب الجمال,وهل أكون عنصريا إذا وصفت هذه المخلوقات بانها ليست جميلة بالشكل المعتاد؟,أتساءل رغما عني هل هذه الكائنات ليست جميلة ومريضة لأنها فقيرة أم العكس؟ لماذا يبدو على معظم الأغنياء والأذكياء أنهم يحملون صفات جينية أفضل وقابلية أقل للمرض,على الأقل المرض الوراثي؟
تدخل سيدة سمراء طويلة تتحدث بلهجة بدوية تحمل رضيعها المصاب بفشل تام في إحدى كليتيه وقصور في وظائف الأخرى وتأخذ وقتا طويلا لتفهم أسئلة الطبيبة,تبدأ لهجة الطبيبة في التحول مع نفاذ صبرها من بطء وقصور تفكير السيدة وتتحول إلى كولونيالية واضحة ذكرتني بأحد الموظفين العموميين أثناء حكم محمد علي عندما حاولت تلك السيدة الجلوس في أحد الأركان وأخرجت ثديها محاولة إلقامه صغيرها,لدى هذه السيدة طفلان آخران فإذا فقدت هذا الطفل فلا مشكلة,أعتقد أنك كطبيب يجب أن يصيبك هذا التحول,أن تكون منطقيا وعلميا,أن تفهم أن الأطفال مجرد كرات من الدهن اللزج تم الدفع بها إلى هذا العالم حفاظا على النوع, وأنها تكتسب الحق في الحياة عندما تمتلك وعيا وإدراكا,ثم أنه هل يجب السماح بجينات كهذه بالبقاء أصلا؟


يقابلني صديقي بالصدفة فأقول له أن أفضل تشبيه يتملكني لحالتنا بعد انتهاء الكلية هو أننا كالعبيد التي عندما أصدروا قوانين تحريرها لم يستطيعوا أن يعيشوا بعيدا عن سادتهم فعادوا إليهم,حولتنا سنوات الطب السبع إلى عبيد الضغط والمسئولية والنظام والكتب والمذكرات وأهواء الأساتذة فعندما أطلقونا لم نعد نعلم ماذا نفعل غير هذا فإما أن نعود لمزيد من العلم والدراسة وإما الضياع وغياب الهدف,يقول لي:مثل ذلك الرجل العجوز الذي خرج من سجن شاوشانك بعد خمسين عاما فيه,فأقول:بالضبط..ولا تنسى أنه قد شنق نفسه.

حلم 9

-أنا الذي كنت مصمما على الحياة ولو حتى في مكان لا يتسع إلا لموطيء قدمي..ماذا حدث لي! 
=أصبحت كئيبا عندما قررت أن تكون عاديا
-ومن أدراك أنني لست كذلك؟!
=احتمال..ولكنك لا تجد راحتك في أن تكون عاديا
-أنا الذي دائما ما أدرت وجهي عن الحقيقة
=أصبحت كئيبا لأنك تشعر بأنك اقتربت أكثر من اللازم من الحقيقة
-أنا الغائب عن الوجود الفاقد للإرادة 
=أنت المترفع عن الوجود الذي أنهكته إرادته
-أنا الذي قضى حياته مبتعدا عن الإثارة الرخيصة فأصبحت هي حياتي
=مازلت تحتقرها لكنك تحتاج أن تعطي معنى ما لحياتك حتى وإن كان رخيصا
-ولماذا لم أعد استمع إلا لموسيقى صاخبة؟!
=هي تغطي على الأصوات المنبعثة من عقلك
-هذه الأصوات مؤلمة
=لأنك لم تعتد أن تفقد السيطرة
-لتحصل على سمكة المارلين العملاقة لا بأس أن تتركها تعبث بقاربك قليلا
=صحيح. ولكن لا تترك روحك معرضة للقروش تنهشها
-الكنز يستحق 
=الصياد يستحق أكثر
-وماذا سيكون طعم الحياة إن لم أحاول
=إذا فلا تجلس هناك على الشاطيء تتباكى على ما لم تحققه بعد

حلم 7

والبحر الأحمر يبدو حقيقيا أكثر من المتوسط ،أو ربما هو الظلام وخيوط القمر الفضية التي تتسرب فلا تستطيع السحب المنخفضة أن تمسكها،هناك عند الأفق حافة العالم حيث اختفى رع يلهب الشمس بسوطه فتهرول أمامه،بوسايدون مستلقي هناك يستحم في بقعة من ضوء القمر والمياه تبدو هادئة فلابد أنه رائق البال،غمرني سكون حذر والنوم اللذيذ يداعبني فاستسلم للحظات ثم لا استسلم،تلوذ عيناي بالجبال القريبة فهي توحي بالأمان والطمأنينة حيث لن يصل إليك الطوفان، هكذا ظن ابن نوح ولابد أنه كان مطمئنا حتى لحظاته الأخيرة،يبدو البحر حقيقيا أكثر من الحياة،له وجود راسخ وحضور قوي،لا نملك إلا أن ندلله وأن نقدم له القرابين فإذا غضب فالويل لنا،ربما نروضه يوما إذا استطعنا أن نضربه بعصا فينشق،أو هكذا أظن في هذه اللحظة.

"الجمال الناقص..أكثر اكتمالاً"

تمر عربات المترو أمامي كعجلة الروليت..اترقب أن ترسو الكرة على عربة فارغة قليلا..تبدو العربات كشريط سينمائي تظهر عليه مشاهد مختلفة في نفس موقع التصوير..ينفتح الباب وتندفع موجات البشر صعوداً و هبوطاً..أصعد لينغلق الباب بعدي بلحظات فأدس السماعات في أذني..أعددت قائمة تشغيل تبدأ ب forgiven لفريق within temptation وتنتهي بمقطوعة canon in D major ل Johann Pachelbel ووقفت اتأمل المحيطين وأحاول أن أقرأ شفاههم ولغة أجسادهم..كان هناك هذا الطفل الصغير يجلس في جانب العربة وقد تلطخ وجهه عند جانبي فمه وأنفه بالغبار ومادة شحمية سوداء وأحاطت بعينيه هالات سوداء وغطى البقية الشحوب فبدا كوجه مهرج حزين..تابعته بهدوء لأجده ينهض ويسير قليلا ثم يمد يده ليلتقط ورقة بخمسة جنيهات بارزة من جيب أحد الركاب..التقت عينانا في هذه اللحظة فابتسمت وابتسم فاتجهت لطخات الفحم إلى أعلى وارتسمت على وجهه صورة مهرج سعيد.
****
اقتربت محطتي فعدلت هندامي وحملت حقيبتي..انفتحت الأبواب ووضعت قدمي على الرصيف..رفعت رأسي لأجدها تتحرك في سرعة تجاه عربتي..نظرت إلى صدر قميصي وانفرج وجهها ثم رفعته ناحيتي وابتسمت..ابتسمت أنا بدوري وأنا أدير وجهي إليها بينما تصعد هي إلى العربة..وقفت في مواجهة العربة والتقت عينانا في حوار طويل ليس بقوانين هذا البعد الزمني..وقبل أن تتحرك العربة تحسست شعرها المربوط كذيل الحصان وأمالت رأسها قليلا تجاه كفها الذي رفعته تلقي التحية فرفعت كفي بدوري ثم انغلق الباب وانطلق القطار..كان مكتوبا على قميصي "the Oldman and the sea"..العجوز والبحر..تذكرت العجوز يقول:"ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل"..استدرت لاختلط بكل موجات البشر هذه التي أصبحت لا تعني لي شيئاً ..وانطلقت من فمي زفرة حارة اختلطت هي الأخرى بأنفاسهم وحرارة القضبان.

حلم 13

ذهبت إلى كليتي في هذا اليوم لأجد الأمور تسير كالمعتاد، تجمعات من الأولاد أو البنات أو الاثنين تقف هنا وهناك وآخرون يعبرون إما ذهاباًوإما إياباً وأصوات متداخلة تعلو حيناً ثم تنخفض،لا أستطيع تبين وجوه مألوفة فأمضي في طريقي لا أعرف إلى أين،يظهر أمامي من خارج مجال رؤيتي رجل عجوز أصلع يبدو من هيئته أنه موظف ويبدأ في التحدث فلا أشعر بحاجة لسماعه وينصرف تركيزي بعيداً ولكنه يرتجف بشدة ثم يقطع حديثه فجأة ويبتعد عني عندما تقترب مني إحدى الفتاتين المنتقبتين اللتين عبرتا مجال بصري في طريقي،أجدني بعدها أجلس معها في الدور الثاني من منزل متهدم من الطوب اللبن على أريكتين متعامدتين أرى الناس يتحركون من بعيد عبر جدار سقط نصفه،تنظر إلي وهي تبتسم ثم تتحدث في أمور ليس لها أي معنى و تعود لتبتسم،أدرك هذا رغم أنها منتقبة،أجد عيونها وقد تلونت بلون الدم تدريجيا وتجعد الجلد حولهما دون أن تقطع حديثها،أشعر كالفأر الذي حصر في زاوية،أنهض واتراجع ثم اركض تجاه الناس،أشعر بنظراتها وابتسامتها وهي في مكانها لم تتحرك، كان هذا أكثر إرعابا،اختلطت بالناس انظر إلى وجوههم وعيونهم وأفواههم فلا أرى إلا ظلالاً مبهمة ولازال شعور الفأر لم يغادرني أسفل ضوء قمر عاجي دون قمر،كان هذا كله بالألوان الطبيعية وبطابع قريب جدا للوحات فرانشيسكو جويا

الخميس، 22 سبتمبر 2016

المدينة المشوهة:ثنائي الزهور(الحلقة الأولى)


هذه متتابعة جغرافية وقصصية اتخذت من مدينة المنصورة بطلها ومسرحاً لها وليست مذكرات شخصية للكاتب بأي حال من الأحوال..
********
ليس هناك أعظم من أن يكون لديك معلم كبير..وأن تكون تلميذه المخلص..المعلم الكبير سينقل لك كل ما جناه في هذه الحياة بحكمته وصبره..المعلم الكبيرسيحميك من شياطين الطريق ووحوشه..سيصرع الحيرة حتى وإن لم يجلب اليقين..سيقتل الغضب وإن لم يأت بالسعادة..سينقذك أيها التعس وينزع منك خوفك..سيعطيك مسحة الأمل حتى لا تضل سواء السبيل..لا يجب أن تشق طريقك وحدك في هذا العالم..فإن لم تجده..العالم الخبير القوي القادر على بث الطمأنينة في نفسك..إذا بحثت عن صورة الله في هذه الأرض فلم تجدها..فلم لا تبحث عنها في السماء فتجلبها إلينا؟!..تجلب لنا المعلم الذي نسينا ونسي أن يترك لنا صورته..تعالى وتنزه عن كل نسيان
********
((لقد فاض بك الحب على حين أن من ساقوك إلى هنا لم يذوقوا من الحب إلا النذر اليسير))
*من حديث عيسى إلى ساقطة بيت المقدس
*******
المنصورة التي أعرفها,المدينة متوسطة الحجم التي يحمل جسدها دماً فاسداً وملوثاً ويتمدد يوماً بعد يوم يسري في شريطين متوازيين كالأورطى والوريد الأجوف السفلي يتعامدان على فرع دمياط من النيل قبل أن ينكسرا له ليسيرا بموازاته إذا دخلت المدينة من جهة سندوب يتدلى منهما شرائط تبدو كأوعية دموية رئيسية  تفضي إلى أحيائها التي تحتوي أوعية أصغر.. هناك مدخلين رئيسيين لمدينة المنصورة أحدهما من المدينة الصغيرة المتاخمة لها سندوب يفصل بينهما شريط القطار الذي يربط المنصورة بالمطرية قبل أن ينحني ليشق المدينة الأكبر التي تقع شمال هذا الخط ,والآخر من طريق مصر إسكندرية الزراعي الذي ينشق عند نقاط التقائه بالمدينة إلى مداخل عدة منها حي الأشجار وامتداد شارع عبد السلام عارف وامتداد شارع جيهان ولكن أبرزها هو الموازي لسور الجامعة قبل أن تصعد كوبري الجامعة المفضي إلى الطريق الدولي الساحلي أو إذا كنت نازلا من كوبري الجامعة قادماً من الطرق الواقعة شمال المدينة..بينما أنت متجه إلى المدينة قبل أن تدخل إليها على الطرق الخارجية المحيطة بها يطالعك حزام أخضر من الأراض الزراعية تزحف المدينة كمسخ غير محدد المعالم تفوح منه عفونة قديمة لتلتهمه في كل لحظة..يذكرني هذا الوصف الخارجي للمدينة بالوحشة التي تصاحبني دائماً على الطرق السريعة والتي ربما السبب فيها هو غياب المعالم الواضحة وخصوصية المكان وحتمية أن تسلك دائما طرقاً معينة في وسط اللامكان لا تستطيع الفرار.
المتجه إلى المنصورة من الطريق التقليدي لها عبر سندوب بعد أن يصعد إحدى الميكرو أو الميني باصات ويجلس بجوار النافذة محتملاً الرطوبة ورائحة العرق وربما البول والقيء كذلك بعد أن يضع شيئاً ما يسد به أذنه كسماعات الهاتف وتتحرك الحافلة لتشق الشريط الشرقي الذي يصبح شمالياً عند التقائه بالنيل سيجد على يمينه مبنى ضخم غير موح بالثقة ربما بسبب الطابع البيروقراطي له والتصميم الحكومي المتظاهر دائماً بتوفير النفقات على حساب جمال المعمار منغلق على أسراره لا تستطيع أن تعرف ما يدور بداخله مغطى بسواد العادم والغبار مكتوب عليه مستشفى التأمين الصحي بالمنصورة يدخل ويخرج منه أناس يرتدون الجلابيب والملابس الرخيصة بعضهم بذقون طويلة تبدو كأنها مغطاة بالمخاط اللزج أسفل وجوه غبية كالحة ونساء يرتدين غطاءاً للرأس فيبدون كمرضى السرطان وآخرون يرتدون النقاب ويتدلى من نوافذه مناظر كملابس داخلية متسخة تتدلى على حبل أو شخص يرتدي ملابس منزلية بذقن غير حليقة يقف مع كيس من اللب أو يتدلى من فمه سيجارة ,وسيجد على يساره جداراً تذكارياً مغطى بالغبار ولطخات من الطين يحمل سورة الفاتحة والآيات الاولى من سورة البقرة كما اتفق على تصويرهما في بداية المصحف يليها تمثال لنهضة مصر ثم صورة من غرفة العمليات للقوات المسلحة في حرب أكتوبر كانت تحمل وجه حسني مبارك يشير إلى خريطة أمام السادات قبل أن يتم تغييرها بعد 25 يناير إلى شخصية عسكرية ما لا تستطيع تمييزها ثم مشاهد من معركة المنصورة ضد الحملة الصليبية ومركب فرعوني تقليدي يحمل سنابل القمح يجلس عليه العمال يجدفون ثم حائط يحمل وجوه متعددة للشخصيات البارزة في تاريخ محافظة الدقهلية والذي يحمل شخصية دينية متعصبة ومتطرفة بجوار شخصيات كأم كلثوم وأحمد لطفي السيد ود.محمد غنيم وشخصيات أخرى لا تعرف من هي أصلا,يقع هذا الجدار في مقابل محطة بنزين تابعة للجيش فتشعر به منسجماً مع الطبيعة العسكرية له بشكل ما,ينساب الطريق محاطا على اليمين بجزر من المسطحات الخضراء ثم على اليمين وعلى اليسار بعمائر مرتفعة من الطوب الأحمر القبيح تزحف على أطراف المدينة محملة بالعائدين من الخليج يفضي إلى مجمع المحاكم العملاق على اليمين واستاد المنصورة على الجهة المقابلة من الطريق..يقام في هذه المنطقة سوقاً للسيارات المستعملة الأربعاء من كل أسبوع على الجهة الاخرى من الجزر الخضراء بالإضافة إلى مجموعة من الأكشاك الخشبية والنصبات التي تستطيع أن تحصل منها على كوباً ساخنا من الشاي أو القهوة,حمص الشام.أو ورقتين بفرة تحملهما إلى إحدى المظلات وسط الأشجار القريبة لتحصل لنفسك على سيجارة تعدّل من مزاجك .
في هذا الشارع مشيت يوماً ما مع الفتاة الوحيدة التي شعرت معها بأحاسيس حقيقية وشكلت مفاهيمي وانطباعاتي عن النساء,..في كل فتاة عرفتها بعدها وانجذبت إليها وجدت جزءاّ منها و ظللت دوماً أفتقد الكل..كنت في سنتي الجامعية الأولى قد ذهبت إلى صديق لي يسكن بشارع الاستاد لأحصل على بعض الاوراق والمذكرات ثم جلسنا سويا نحاول الاستذكار وحشو أي معلومات في أدمغتنا مع شعور بأنه لا جدوى,في ذلك اليوم الشتوي الممطر المثقلة سماؤه بغيوم سوداء جلسنا في مقابل بعضنا إلى منضدة لها قرص زجاجي على قاعدة معدنية وقد أشعلنا ثلاث شمعات في منتصف القرص بعد أن انقطع التيار الكهربي,يتراقص ضوء الشموع على وجه صديقي ويبدو أنفه أحمراّ بشدة وهو يقرأ في كتاب علم الوظائف الحيوية-الحجم الأول,أشعر بالرعب الذي نتشاركه تجاه هذه الكتب والمذكرات التي ترقد أمامنا تنتظر أكثر من مجرد الإطلاع عليها,ارتجف من البرودة ومن القادم ولكنني احمل املاً بأنني قد أراها اليوم,قد تسمح لي هي بذلك..أخبرتها أنني أحتاج أن اتحدث معها في أمر مهم,لم توافق,كنت أريد ان أراها وأشعر بوجودها قربي وكان هذا أمراً مهماً لي,لماذا لا تدرك هذا,لم تتصل فاتصلت أنا, أخبرتني بأنها لا تستطيع مقابلتي,ألححت عليها فوافقت وأخبرتني أنها ستغادر سريعاً,أنهيت المكالمة وانا على أمل أن تبقى أكثر,أخبرت صديقي أنني سأرحل ثم غادرت مسرعاً,لا أصدق حتى أنها ستأتي حتى أراها تنزل من التاكسي أمام الاستاد وقد توقف المطر وبقيت الغيوم’,تبتسم وتتجه ناحيتي,أشعر بدفء غريب ينتشر في داخلي وهي تقترب,أشعر بالحياة تقبل عليّ,أتخيل الحياة دونها وتهبط عليّ ظلمة مفاجئة فأطرد هذا الخاطر في الحال,تسألني عن حالي وهي تنظر لي بتلك النظرات الجانبية التي تعرف جيداً كيف تلقيها مع تلك الابتسامة التي تحمل في إحدى أوجهها سخرية وفي وجه آخر شفقة وكأنها تقول ((ياللمسكين)),أراها فأنسى الوظائف الحيوية وما ينتظرني من لحظات سوداء أنا الذي ينتظرني أول اختبار نهائي لي في الكلية بعد أيام ولا أعرف حتى كيف أجلس لاستذكر أي شيء,وددت أن أنسى هذا ولو لساعات قليلة,تقف بجواري ولكنها في عالم آخر,تخبرني أنها سترحل الآن وانها متأخرة فأقول لها أن تبقى قليلا,أشير إليها بأن نتمشى قليلا حتى تجد ما تركبه,تسير إلى جواري وقد خلت الشوارع من حولنا بتأثير المطر ثم نعبر الطريق إلى الجهة المقابلة,نعبر بين أتوبيسين عملاقين فأشير بيدي لها أن تتقدمني تبتسم وتبدأ في السير أمامي وجسدها الجميل يتمايل بتلك الطريقة العشوائية البدائية الغير متكلفة,أسمع صوت نبضي في أذني وأشعر بالدم يندفع إلى رأسي حاملاً الدفء وقد نسيت تماما الواقع الذي ينتظرني,يبدأ المطر مرة أخرى فنسير مسرعين ونحتمى في مدخل سينما نانسي التي تقع خلف المجمع,أتكلم وأتكلم محاولاً ان أحرك مشاعرها,تخبرني أن قميصي يعجبها,تحرك إصبعها تتحسسه مسرعة ثم تعيد يدها وهي تنظر لي مرة أخرى بتلك الطريقة التي أحبها وتبتسم فتشعل بداخلي الحيرة,في هذه اللحظة أخبرتها مرة أخرى بمشاعري تجاهها فلم ترد وإن احتفظت بابتسامتها المحيرة تلك ونهضت لتخبرني أنها يجب ان ترحل,أطلب منها برجاء أن تبقى قليلاً ولكنها تصر على الرحيل,أعيد الرجاء ولكنها ترفض وتتحرك,أسير إلى جوارها,أتحدث وأتحدث وهي ترد بجمل قصيرة وسريعة,نقف في انتظار حافلة فلا تأتي,تقول لي أنها تشعر بالذنب وان هذا لا يرضي الله فأطلب منها أن نسير سوياً باتجاه محطة الحافلات وفي المقابل سأغني لها وأنظر إليها مستعطفاً,تقرقر كالأطفال وتتقدم,نسير على الرصيف المجاور للجزر الخضراء في نهر الطريق باتجاه المدينة الاصغر,أغني لها بالفرنسية مقطوعة ثنائي الزهور,تسألني باستغراب عن معرفتي بالفرنسية فأهز رأسي بسعادة,أقول لها معنى الكلمات:

تحت القبة السميكة
حيث الياسمين الأبيض
يتجمع على الوردة
في نهر الزهور
يضحك في الصباح
تعال,دعنا ننزل
سوياً

تبتسم في خجل وتتحسس خصلة الشعر المتدلية على جبهتها من حجابها,أفقد أنا شعوري بكل ما حولي,تخبرني أنها تشعر بدوار خفيف وترغب في الجلوس فنجلس إلى مظلة قريبة,تقول لي:أكمل

بلطف,دعنا ننزلق
حول فيضانه الساحر
دعنا نهرب معه
التيار
بيد واحدة غير مهتمة دعنا
نصل للضفة
تعال,دعنا نجد الضفة
حيث ينام المصدر
والطيور,الطيور تغني
تحت القبة السميكة
تحت الياسمين الأبيض
دعنا ننزل سوياً

ثم رددت هذا المقطع في رأسي وأنا أنظر إليها صامتاً ساهما:

ولكن,لا أعرف لماذا
خوف مفاجيء
يجرني للخلف
عندما يذهب أبي وحيدأً
إلى مدينتهم الملعونة
أنا ارتجف,ارتجف من الخوف

تمد يدها إلي وتمررها على مقدمة شعري ثم وجهي وأنا لا أتحرك,تنهض وتخبرني أنها تأخرت كثيراً تشير إلى تاكسي يقترب وتنظر لي بحنان وهي تفتح الباب,تستقر في المقعد الخلفي فأرى ظلالا من وجهها وقد بدأ الظلام في الهبوط,أضع يداي في جيبي معطفي واضغطهما بقوة على جسدي والسيارة تبتعد.
ولم اسمع منها أو عنها مرة أخرى.



الثلاثاء، 20 سبتمبر 2016

رأس البر (قصة)



N.B:هذه القصة كتبتها منذ خمس سنوات مضت

دكتور رمزى البسيونى طبيب الأسنان الذى يعيش وحيدا فى بيته القديم المطل على منطقة السوق المناوءة للنيل بمدينة رأس البر التى تمتزج فيها مياه النيل بالبحر المتوسط..أخذت اتأمله فى بادىء الأمر وهو غارق فى مقعده وقدماه على مقعد مقابل ,يغطى بالجريدة وجهه و تخيلته مجرد عجوز على المعاش يقرأ الجريدة ويرتاح قليلاً وقد اقترب وقت القيلولة,فيما بعد تعجبت القدر الذى رتب أن يوقف أخى السيارة بالذات أمام هذا البيت الذى يرقد كالسلحفاة العجوز وسط الاستراحات والفيلات حديثة الطابع وينزل ليبحث عن صديق له يعمل فى كافتيريا قريبة,نزل أولاد اخى من السيارة وأخذوا فى إحداث جلبة استيقظ على إثرها العجوز ووقف مستندا إلى سور شرفته التى تقع فى الطابق الأرضى من منزله ذى الطابقين وارتسمت على وجهه الممتلىء بالتجاعيد المتداخلة والمتقاطعة والصلبة كأنها رسمت على قالب من الصلصال ابتسامة اخذت تتشكل ببطأ شعرت معه أن الخطوة التالية هى أن يتهشم وجهه ويسقط على الارض..أخذ بعدها يلوح لهم بيده واتسعت ابتسامته أكثر وأكثر,أدرت بصرى فى البيت ومحيطه بطابعه القديم المختلف عما حوله فواجهتنى لافتة كتب عليها..د.رمزى البسيونى  أخصائى جراحة الفم والاسنان بالمستشفى العام,اقتربت منه وسألته:(حضرتك دكتور أسنان مش كدا؟)..فرد:(أيوا يافندم..أأمرنى) ..عندما اقتربت منه شعرت بسنه الكبير فعلا الذى يقارب الثمانين وبيجامته المتهدلة على جسده النحيف,بيجامة كانت أنيقة يوما ما لوثت اطرافها بقع من عصير البرتقال كتلك البقع التى تلوث ما حول فمه ويطل من تحتها بول أوفر قديم خاط هو اطرافه بخيط ابيض يبدو واضحا من لون البول أوفر الداكن وبطريقة غير احترافية بالمرة ونظارته الشمسية التى ترفع عدساتها لأعلى ليتبدى من تحتها عدسات اخرى للقراءة..
-((أنا طالب فى كلية الطب))
-((طب القاهرة؟))
-((لا طب المنصورة))
-((تشرفنا..أنا كنت وكيل وزارة الصحة فى دمياط هنا ومسكت كمان مدير المستشفى العام بس أنا دلوقت بقيت على المعاش.. خلاص..الجماعة دول أهلك مش كدا؟..ما تيجوا تتفضلوا؟))
-((أيوا أهلى..الله يخليك يا دكتور شكرا..إحنا لسه واصلين..أكيد هعدى أقعد مع حضرتك شوية لو تسمحلى))
-((أكيد لازم تيجى..هستناك فى أى وقت لو فاضى بالليل ابقى تعالى نقعد شوية..زمان كان الأطباء كلهم بييجوا يقعدوا عندى هنا))
فى هذه اللحظة عاد أخى ومعه صديقه فاستأذنت منه..فقال لى بعينيه التى حال لونها قبل لسانه:((هستناك))
ابتسمت له ابتسامة مطمئنة وقلت:((وأكيد))
ثم صافحته وعدت إلى السيارة لتسألنى والدتى:((مين دا؟))
-((دا دكتور أسنان على فكرة..هبقى انزل اقعد معاه شوية بالليل))
-((وهو إحنا نعرفه..إنتا أى حد كدا تروح تقعد معاه..مبتسمعش عن المشاكل اللي بتحصل..مانتاش رايح فى حتة بالليل على فكرة هتفضل معانا))..قلت لنفسي..(أي كلام)
-((ربنا يسهل يا ماما))
************************************************************
بعد أن استقر بنا الحال في الشقة المطلة على ذلك الممر الطويل الذي يشق طريقه لمسافة يسيرة في البحر و التي اشتراها والدي قبل سنوات قليلة من وفاته,بدأت أمي وزوجة أخي في التنفيض والتنظيف بينما ذهب أخي ليجلب احتياجاتنا خلال إقامتنا هنا وأخذ الصغار معه,فتحت باب الشرفة بصعوبة ثم حملت مقعدا ورواية وجلست أقرأ واتأمل تلك الأجساد الممدة أسفل الشمسيات تتظاهر بالسعادة حتى ينتهوا جميعا ونتوجه كلنا إلى الشاطيء,الهواء يحمل الدفء والبرودة يلطم وجهي ويعطيني شعورا بالانتعاش فأغوص أكثر فى المقعد وتسري في جسدي قشعريرة الانتشاء..تذكرت أبي لما غاب عنا لأول مرة عندما سافر مع ذلك الوفد الاقتصادي التابع للبنك الذي كان يعمل به..في بداية فترة الغياب لا تشعر بأن شيء قد تغير خصوصا مع طول العزلة في غرفتك إما للدراسة وإما للقراءة والتأمل..مع الوقت تعتاد هذا الغياب وتظل هناك ذكرى بأنه سيعود بعد فترة ما ثم تنساها بعد ذلك حتى يجيء يوم العودة..ولكن الامر بدأ عندما عاد فعلا..الشعور فعلا بأنك كنت مكشوفا إلى حد ما في هذا العالم دون هذا الرجل الذي يعطي مجرد وجوده في المنزل الشعور براحة ما..تفكر كيف أنك على الرغم من طول فترات انعزالك كنت تعشق هذه اللحظة التي كان يدخل فيها عليك غرفتك ليتكلم معك أو ليسألك عن أمر ما فتظل تتحدث معه بعصبية ولا تنسى في النهاية أن تقول له بأن يطرق الباب في المرة القادمة..((والنبي يا بابا احترم إني ليا خصوصيات)) ولكنه يكررها ويتكرر تذمرك..عندما تستيقظ عند الفجر لتجد صوته الخافت يردد الأدعية في صالة المنزل استعدادا للنزول للصلاة وكيف كنت تستيقظ في غيابه في ذات الوقت فيلطمك الصمت المطبق فتعاود النوم وفي أحشائك شعور ما لا تدري طبيعته..شعوري بالتقدير الكبير الذي يحمله لي بداخله وإن بدا عكس ذلك في بعض الأحيان وكيف كنت أتقبل كل هذا التناقض فى التعامل بروح الكل الذي لا يتجزأ..تبدأ في الشعور فعلا بأنك تحب هذا الرجل وأن وجوده شيء أساسي وحقيقي لكي تستمر هذه الحياة....كل هذا يراودك بعد العودة لا عند الرحيل..لهذا لم أعد استغرب غياب أبي وكيف لم أذرف دمعة واحدة يوم وفاته..الرحيل يختلف كل الاختلاف عن العودة..ومنذ زمن كنت قد اعتدت الرحيل..لم يكن يعرف كيف يعبر عن محبته لي..نجلس صامتين فيخيل لي انه يتأملني بحب فالتفت إليه لأجد لا مبالاة تامة..لم يجلب لي يوماً شيئا اتذكره وأقول هذا من أبي..لم نخرج معاً أو نسافر سوياً ولا توجد صورة واحدة تجمعنا..كل ما أتذكره شبح يدخل إلى غرفتي كل ليلة ليحكم الغطاء حولي ثم يطبع قبلة على وجهي وانا على حافة الحلم,هذا فقط ما يؤكد لي ان وجود أبي كان حقيقيا,بأنه كان لي يوما ما جذوراً في هذا العالم ..عاد أخي وانتهت أمي وزوجته من كل شيء وبدأ اخي في القاء الدعابات فأشاركه إياها وأنا ارسم على وجهي ابتسامتي الزائفة المعتادة.
************************************************************
كانت تقول..نعم,أنا أخاف على سمعتي ومن المجتمع والأهل ولكن ما أشعر به في هذه اللحظة هو أنني سعيدة....كنت أشعر بصدق هذا الكلام فعلا عندما قالته في لقاء بيننا,نعم هي أقل من طموحاتي عقليا ونفسيا وحتى على مستوى العائلة وغيرها,ولكن لا أدري لماذا أتذكرها وأشعر بهذا القدر من اللهفة على رؤياها بقامتها المنطلقة المثمرة ودفء جسدها حين تلتصق بي في جلستها,استجاباتها السريعة لي بمجرد التفكير في قول شيء ما وشعوري أنها كانت تنتظر هذه الفرصة..لا أعتقد أنه حب وأخاف ان يكون اشتهاء..بل إنه ليس حبا..ربما هي الرغبة في أن يكون هذا الجسد الفارع البكر الذي تحاول أن تخفي تفاصيله بارتدائها (تونيك)طويل واسع قليلا ملكك أنت..ربما أنت تريد أن تتلقفها وهي ما زالت بهذه البراءة والطهر وقبل أن تتلوث..خجلها من الحديث إليّ في باديء الأمر الذي سرعان ما زال بعد أن بدأت أنا الحديث..اهتمامها الزائد بكلماتي وتقديسها لها وكأنني أنطق بالحكمة مقطرة..ربما لبراءتها وخلوها إلى حد ما من أقنعة الزيف التي سئمتها في كل من حولي.واحتفاظها على الرغم من تظاهرها بالعكس بطريقتها الريفية التي أحبها..أراها منذ أن كانت طفلة أمام عينيّ بجسدها الذي فار وانسكب مبكرا..شعور بالاهتمام بي كانت تحاول إخفائه بطريقتها البكر لكني تلقفته رغم قلة رؤياي لها..لا أريد أن أنسى كذلك ما شعرت به حين اقتربت بفمي من أذنها لكي أخبرها بما لم تسمعه..لم أتلقى أي رد فعل يدل على نفورها..بالعكس..شعرت بها تناديني..تذكرت كذلك كيف خفت..خفت من ذلك التحول الطاريء عليّ..لا أحب الدخول في علاقات أعرف نهايتها وتكون المشكلة مشكلتي أنا..أنا مثل البحر الذي يرقد أمامي الآن يبدو هادئا تماما ولكن الأمواج تستعر في أعماقه استعدادا لأن تقلب كل شيء رأسا على عقب..أحيانا تنتابني تلك الفكرة..ألا يكفيها ما قدمته لها من شعور بتقدير لذاتها بسبب وجودي في حياتها..يدور السؤال في ذهني..هل تفكر هكذا حقا..والإجابة المخيفة أنه نعم..طريقة حسمها الأمور بسرعة وسذاجة لا تناسبني..شعورها بالتضاؤل أمامي وحسابها لكل كلمة أنطق بها في حقها..شكها..قلقها..كل هذا لا أستسيغه ولا أحبه ولكني أتفهمه لا أفهمه..ربما كنت انوي تشكيلها كما أحب..ربما أردت أن أضع بها حدودا لعالمي الذي يتمدد دون سيطرة مني..سمعت أمي تكلمني: ((تشرب شاي ولا قهوة))..كانت قد أوقفت ذلك الفتى الصغير فى التاسعة من عمره تقريبا يرتدي طاقية تخفي وجهه بالكامل وهو ينحني ليصب الشاي فى أكواب بلاستيكية عندما انسدلت تلك الضفيرة البنية من أسفل الطاقية ورفع أجمل وجه رأيته في عمري الغير مديد..كانت فتاة..فتاة بكل ما يعنيه هذا من معاني لي..العيون الواسعة التي غطى لونها البني المذهب على معظم بياضها,تنسدل عليها رموش ليست بالطويلة ولا القصيرة لكنها ساحرة..البشرة الناعمة الخمرية التي غطاها الفقر بالأنيميا والشحوب ولكنها ظلت رغم هذا تبرق ببريق خافت كاللؤلؤ..الملابس الرثة التي تغطي الجسد الطفولي النحيف بالفقر الرشيق من العناء..ويدها التي تحمل ترمس الماء الساخن..يد لوحتها الشمس وملح البحر ولكنها ظلت شفافة نظيفة وكأنك لو لمستها لانكسرت..لماذا لم نولد لنا نفس العمر في نفس المكان يا فتاة..ربما لاختلف الأمر وقتها..كانت تنظر لي منتظرة إجابة مني فسألتها : ((اسمك إيه؟))
فردت: ((أميرة يا أستاذ))
*****
في المساء مشينا إلى منطقة اللسان حيث يعانق النيل البحر المتوسط برفق أحيانا وبقوة أحيانا أخرى..كانت الساعة تقترب من العاشرة مساءا وشعور كالمخدر تماما يسري في رأسي..تشاجر أخي مع زوجته وتركنا ورحل كالعادة..حاولت معه ومع زوجته بكل الطرق دون فائدة..السبب؟!...لن تصدقني إذا قلت لك أنه ارتدائها (إيشارب)أحمر..هو يحبها جدا ولكن أشعر دوما بعدم ثقته بها,حديثه الدائم عن النساء اللائي يعرفهن وأنه يرغب في الزواج من أخرى يعطيك انطباعا بعدم الثقة بالنفس,حدث مرة أن ارتدت النقاب ارضاءا له دون أن يطلب ذلك فشعرت به منتشيا منتعشا ولكنها تركته بعد فترة فاستشاط غضبا وبقيت عند أهلها مدة شهر تقريبا,هي كذلك لا تثق به,ربما هو فعلا السبب في كل هذا, فأخي وسيم ولا أحد ينكر هذا,وهو كذلك لا يكف عن ملاطفة النساء..زوجته كذلك شهية ولا تفهم كلامي دون محله.. أنا فقط أوضح الصورة..المهم أن الأمسية بات محكوما عليها بالفشل والضحية هم الأطفال الذين اشتكت إحداهم إلي قائلة :((هو بابا كدا دايما يا عمو يبوظ علينا أي خروجة)),مما يعطيك انطباعا عن مدى هيمنة الأم عليهم,أو ربما هي عاطفتها الصادقة,ذهبت ابحث عنه في كل مكان فلم أجده,هكذا تناولنا العشاء في منطقة السوق ثم توجهنا للسان.
تركتهم وجلست على إحدى الصخور المواجهة للبحر,بعد قليل نظرت إليهم فوجدت أخي قد عاد وأخذ يداعب الصغار فنظرت إلى البحر وأنا اجتر الذكريات اجترارا,ذكريات أعادتها إلي النغمات التي تتسرب إلى أذني عبر السماعات ,أتعجب أحيانا من مدى ارتباط الأغاني بذكريات معينة,يمر الأمر بالكامل أمام عينيك بينما الكلمات والنغمات تداعب مراكز الحنين في المخ ..تشعر بتلك الرعشة الخفيفة تجتاح جسدك..في أحيان أخرى كانت الأغاني والألحان بالنسبة لي كأنها صنعت من أجل قصة ما بالذات..كأنها نبتت هناك في مخيلة مؤلف مبدع وملحن بارع في انتظار موقف ما أن يحدث..أو مؤلف ما أن يكتب روحها في رواية..أحيانا كان يحدث العكس..أمسك بنفسي أحيانا أفكر بنفس طريقة أخي..ربما هذا هو سبب مشاكلي معها..في البداية كانت لا تعني لي أكثر من مجرد تجربة مثيرة كنت أراها عادية تماما حتى عندما تعرفت عليها بشكل عفوي تماما لم تكن أكثر من مجرد صديقة..أحببتها..نعم..تستطيع أن تقول هذا..بل أن تراهن عليه..ما حدث بعد ذلك ربما يؤيد كلامك..رباه ما الذي جاء بهذه النغمات التي تنساب إلى أذني في هذه اللحظة بالذات!..الصوت الفيروزي يصدح قائلا بأن( الهوا) قد نسم علينا من مفرق الوادي..ربما لم أكن أشبه أخي رغم كل هذا..جاء الأمر بشكل سريع لم أكن أتوقعه عندما قلت لها عبر رسالة قصيرة على هاتفها المحمول..أحبك..وقالتها كذلك..حتى هذه اللحظة لم أكن متأكدا من هذا,ربما قلتها لأنها كانت المتاحة وقتها..عندما ابتعدت أيقنت بالحقيقة..ربما هي أعطتني لمسة دفء في بحر صاخب متلاطم أو أنها قد جاءت في الوقت المناسب لها وربما في ظروف أخرى ما كنت لالتفت لها,ولكن منذ متى والحب لم يكن نتاج مجموعة من الأحوال والظروف النفسية والقدرية..تتجمع وتتشابك وتتشعب حتى يصبح من الصعب عليك أن تغادر بسهولة..هنا فقط كان الرحيل صعبا ومازال..عندها تتوقف حياتك تماما وأنت على أمل..تراقبها من بعيد وأنت على أمل..تدرك الحقيقة..حقيقة أنك كنت أنت التجربة المثيرة بالنسبة لها..وبأنك قد أصبحت مملا الآن..ولكنك تظل على أمل..تقدم التنازل تلو الآخر وأنت على امل..تفقد روحك ذاتها والأمل لم يخبو بعد..أهز رأسي بشدة محاولا أن أنفض منها كل هذه الأفكار فلا أصيب إلا بعد الدوار..جاءت وجلست إلى جواري..كنت أعشق عينيها ونظراتها الخجولة لي..ضممتها بذراعي فالتصقت بي وأراحت رأسها على كتفي وأنفاسها الدافئة تتردد على أناملي وعطر خفيف من شعرها الثائر الذي أحبه يتهادي بين خياشيمي فيعيد إلي الروح.
((يلا يا عمو)),كانت هذه ابنة أخي ..طفلة رائعة..دقيقة فكل شيء..الأنامل..الأنف..الفم..عدا عينيها الواسعتين..كانت كالملائكة فلا ينقصها سوى هالة حول رأسها..قلت لها:((يلا يا حبيبتي!)).
**************
الحياة كذبة كبيرة فلن يضيرها بعض الكذب العميق المغزى..((ماما هشتري قهوة وجاي..))..كانت هذه في طريق عودتنا للمنزل..((متتأخرش))..توجهت بعدها إلى منزل د.رمزي,تذكرني بصعوبة وكان لم يغادر مكانه منذ الصباح!,غاب بالداخل قليلا ثم عاد بكوب من عصير البرتقال لم أمسه أبدا..هو حتى نسي أنه كان قد جلبه لي وأتى عليه بالكامل..قال لي:
-((تعرف إني اتسرقت من كام يوم..أنا فضلت قاعد كدا وهما خدوا كل اللي هما عاوزينه وكأني مش موجود أصلا..من فترة والناس بطلت تعتبرني موجود..))
-((إنما حضرتك مين بياخد باله منك أنا ملاحظ إنك قاعد هنا من الصبح ؟!))
-((الواحد لما بيعيش لوحده فترة طويلة بيحس إن الناس ملهمش قيمة أو فايدة غير إنهم يزعجوك أو يسرقوك قولتلي إنتا في طب المنصورة؟..أنا كنت في طب القاهرة بس كان ليا أصدقاء عندكوا))
-((المنصورة بقت زحمة..بس تقريبا لسا زي ما هي..))
-((زمان كان فيه قهوة على النيل كنا بنيجي من القاهرة مخصوص نقعد عليها..المنصورة في الشتا بعد المطر كانت جميلة..مدينة صغيرة نضيفة ومترتبة..وفي الخريف كانت المدينة بتكون ..بتكون..)) وأخذ يحاول التعبير بيده ثم قال:
((فيها شيء حزين شفاف بهيج وحزين..تحس كأن ذكرياتك بتدور طايرة في الجو وإنتا بتحاول تمسكها)) ثم تابع::((تعالى هفرجك على البيت))
-((لو حضرتك تسمح))..ثم تبعته إلى الداخل,كان البيت عتيقا فعلا كصاحبه..ربما لو فتحت المعجم لوجدت صورته بجوار كلمة عتيق!..الأثاث قديم تغطيه طبقات وطبقات من الأتربة ولكنه فخم جدا تحلق في وسط الصالة ثريا فخمة جدا قد تجد شبيهتها في قصر الجوهرة ! سقف مرتفع ونوافذ ضخمة والحوائط مغطاة بورق حائط موصوم برؤوس وعل جبلي تضاهي الثريا في فخامتها,في أحد الأركان تنتصب مرآة بجوارها مشجب معلق عليه معطف للمطر وشمسية..وتحف ذات طابع إغريقي وأخرى من الشرق الأدنى تتناثر هنا وهناك والعناكب تمرح بينها ولوحات ربما تعود إلى عصر النهضة!,ثم اقتادني إلى ردهة تتناثر على جانبيها الغرف وتقود إلى صالة أخرى تتناثر فيها المقاعد وجهاز تليفزيون عتيق يعود إلى ستينيات القرن الماضي يتوسط مكتبة ضخمة تضم المئات من الكتب..((أنا كنت بحب القراءة جدا خصوصا الفلسفة وليا مؤلفين تلاتة فيها..كانت مراتي بتشتكي مني لكل الناس بسبب إني يا إما في العيادة يا إما قاعد أقرا ومحبوس في مكتبي..الأولاد مكنتش بقعد معاهم تقريبا إلا بالصدفة..أنا كان عندي عيادة مشهورة في ميدان محافظة دمياط))
-((وهما فين دلوقت حضرتك؟))
-((ماتوا..سواق العربية النقل عمل اللي يقدر عليه عشان يمنع الحادثة الحقيقة بس أنا مكنتش مركز..))
-((أنا آسف..))..هنا اقترب مني والشرار يكاد يطق من عينيه وزعق في:((مفيش حاجة في الدنيا اسمها آسف..هي مقدمات ونتايج..الدنيا نفسها متستحقش دا..عاوز تكون عارف إنك كدا كدا هتموت في حادثة في كرسيك هتموت..اتأسفت وأنا قبلت أو لأ هتموت..ما القيمة إذا..عاوز الحقيقة.. الحقيقة أنا اللي قتلتهم))..تعجبت جدا من طريقة تفكيره والشكل الذي احتد به علي ولكني شعرت بلذة ما فيما يقوله أخبرني بعدها أنه لا يؤمن بشيء على وجه التحديد عدا انعدام القيمة وأنه قد يبدأ في الإيمان بشيء إذا دله أحد على طريقة للخلود ثم وقف امام المكتبة وانتقى كتابا غريب الشكل تناثرت فيه رموز عبرانية كنت قد رأيت مثيلا لها من قبل على أحد مواقع الإنترنت أخذ يقلب فيه وهو يقول:((أنا عملت حاجات رهيبة تكفي لحرقي في ميدان عام بعد تقطيع جسمي حيا ورشه بالبهارات..حاجات أنا نفسي بفتكرها فأتقزز ومبعرفش أنام)) وحمل الكتاب وقال لي:((تعالى..)) وتوجه إلى السلم الذي يقود إلى الطابق العلوي تبعته وقد انتابني التوتر بأكملي من هذا الرجل الغريب فعلا وتساءلت عما يعنيه حقا من كلامه,الطابق الثاني يتألف من أربعة غرف على الجانبين توجه إلى الثانية على الشمال ثم دخلها,جريت لألحق به ودخلت إلى الحجرة الخاوية تماما إلا من قفص..((دكتور رمزي..))..((....))...((دكتور رمزي إنتا فين؟))..اقتربت من القفص لأجد أرضيته الملطخة بالدماء..فأجفلت وأنا اتراجع بظهري لأرتطم بالباب,ثم اخذت أصيح باسمه دون أي مجيب,نزلت للطابق السفلي وكررت النداء دون مجيب,خرجت لأحصل على أي مساعدة فوجدت محل بقالة قريب يستعد صاحبه للإغلاق في هذه الساعة المتأخرة,طلبت منه أن يأتي معي لمساعدة د.رمزي.
-((دكتور رمزي مين يا أستاذ؟))
-((دكتور رمزي اللي بيته هناك..))
((دكتور رمزي مات من 20 سنة يا أستاذ..))
-((!!!!!!!))
-((تلاقيه واحد لا مؤاخذة بيشتغلك أو حاجة..أنا هنا من 40 سنة..كان راجل محترم مش عارف ايه اللي جراله..اتجن..عذب مراته وعياله ورماهم لديب كان حاطه في قفص بعد ما جوّعه أسبوع كامل وبعدها حبس نفسه معاه..ديب يا أستاذ اللهم احفظنا !))
نظر لي بعيون متسعة ووجه ملتاع..استمر في ذلك لثوان, ثم انطلق في ضحك هستيري.