هذه متتابعة جغرافية وقصصية اتخذت من مدينة المنصورة بطلها ومسرحاً لها وليست مذكرات شخصية للكاتب بأي حال من الأحوال..
********
ليس هناك أعظم من أن يكون لديك معلم كبير..وأن تكون تلميذه المخلص..المعلم الكبير سينقل لك كل ما جناه في هذه الحياة بحكمته وصبره..المعلم الكبيرسيحميك من شياطين الطريق ووحوشه..سيصرع الحيرة حتى وإن لم يجلب اليقين..سيقتل الغضب وإن لم يأت بالسعادة..سينقذك أيها التعس وينزع منك خوفك..سيعطيك مسحة الأمل حتى لا تضل سواء السبيل..لا يجب أن تشق طريقك وحدك في هذا العالم..فإن لم تجده..العالم الخبير القوي القادر على بث الطمأنينة في نفسك..إذا بحثت عن صورة الله في هذه الأرض فلم تجدها..فلم لا تبحث عنها في السماء فتجلبها إلينا؟!..تجلب لنا المعلم الذي نسينا ونسي أن يترك لنا صورته..تعالى وتنزه عن كل نسيان
********
((لقد فاض بك الحب على حين أن من ساقوك إلى هنا لم يذوقوا من الحب إلا النذر اليسير))
*من حديث عيسى إلى ساقطة بيت المقدس
*******
المنصورة التي أعرفها,المدينة متوسطة الحجم التي يحمل جسدها دماً فاسداً وملوثاً ويتمدد يوماً بعد يوم يسري في شريطين متوازيين كالأورطى والوريد الأجوف السفلي يتعامدان على فرع دمياط من النيل قبل أن ينكسرا له ليسيرا بموازاته إذا دخلت المدينة من جهة سندوب يتدلى منهما شرائط تبدو كأوعية دموية رئيسية تفضي إلى أحيائها التي تحتوي أوعية أصغر.. هناك مدخلين رئيسيين لمدينة المنصورة أحدهما من المدينة الصغيرة المتاخمة لها سندوب يفصل بينهما شريط القطار الذي يربط المنصورة بالمطرية قبل أن ينحني ليشق المدينة الأكبر التي تقع شمال هذا الخط ,والآخر من طريق مصر إسكندرية الزراعي الذي ينشق عند نقاط التقائه بالمدينة إلى مداخل عدة منها حي الأشجار وامتداد شارع عبد السلام عارف وامتداد شارع جيهان ولكن أبرزها هو الموازي لسور الجامعة قبل أن تصعد كوبري الجامعة المفضي إلى الطريق الدولي الساحلي أو إذا كنت نازلا من كوبري الجامعة قادماً من الطرق الواقعة شمال المدينة..بينما أنت متجه إلى المدينة قبل أن تدخل إليها على الطرق الخارجية المحيطة بها يطالعك حزام أخضر من الأراض الزراعية تزحف المدينة كمسخ غير محدد المعالم تفوح منه عفونة قديمة لتلتهمه في كل لحظة..يذكرني هذا الوصف الخارجي للمدينة بالوحشة التي تصاحبني دائماً على الطرق السريعة والتي ربما السبب فيها هو غياب المعالم الواضحة وخصوصية المكان وحتمية أن تسلك دائما طرقاً معينة في وسط اللامكان لا تستطيع الفرار.
المتجه إلى المنصورة من الطريق التقليدي لها عبر سندوب بعد أن يصعد إحدى الميكرو أو الميني باصات ويجلس بجوار النافذة محتملاً الرطوبة ورائحة العرق وربما البول والقيء كذلك بعد أن يضع شيئاً ما يسد به أذنه كسماعات الهاتف وتتحرك الحافلة لتشق الشريط الشرقي الذي يصبح شمالياً عند التقائه بالنيل سيجد على يمينه مبنى ضخم غير موح بالثقة ربما بسبب الطابع البيروقراطي له والتصميم الحكومي المتظاهر دائماً بتوفير النفقات على حساب جمال المعمار منغلق على أسراره لا تستطيع أن تعرف ما يدور بداخله مغطى بسواد العادم والغبار مكتوب عليه مستشفى التأمين الصحي بالمنصورة يدخل ويخرج منه أناس يرتدون الجلابيب والملابس الرخيصة بعضهم بذقون طويلة تبدو كأنها مغطاة بالمخاط اللزج أسفل وجوه غبية كالحة ونساء يرتدين غطاءاً للرأس فيبدون كمرضى السرطان وآخرون يرتدون النقاب ويتدلى من نوافذه مناظر كملابس داخلية متسخة تتدلى على حبل أو شخص يرتدي ملابس منزلية بذقن غير حليقة يقف مع كيس من اللب أو يتدلى من فمه سيجارة ,وسيجد على يساره جداراً تذكارياً مغطى بالغبار ولطخات من الطين يحمل سورة الفاتحة والآيات الاولى من سورة البقرة كما اتفق على تصويرهما في بداية المصحف يليها تمثال لنهضة مصر ثم صورة من غرفة العمليات للقوات المسلحة في حرب أكتوبر كانت تحمل وجه حسني مبارك يشير إلى خريطة أمام السادات قبل أن يتم تغييرها بعد 25 يناير إلى شخصية عسكرية ما لا تستطيع تمييزها ثم مشاهد من معركة المنصورة ضد الحملة الصليبية ومركب فرعوني تقليدي يحمل سنابل القمح يجلس عليه العمال يجدفون ثم حائط يحمل وجوه متعددة للشخصيات البارزة في تاريخ محافظة الدقهلية والذي يحمل شخصية دينية متعصبة ومتطرفة بجوار شخصيات كأم كلثوم وأحمد لطفي السيد ود.محمد غنيم وشخصيات أخرى لا تعرف من هي أصلا,يقع هذا الجدار في مقابل محطة بنزين تابعة للجيش فتشعر به منسجماً مع الطبيعة العسكرية له بشكل ما,ينساب الطريق محاطا على اليمين بجزر من المسطحات الخضراء ثم على اليمين وعلى اليسار بعمائر مرتفعة من الطوب الأحمر القبيح تزحف على أطراف المدينة محملة بالعائدين من الخليج يفضي إلى مجمع المحاكم العملاق على اليمين واستاد المنصورة على الجهة المقابلة من الطريق..يقام في هذه المنطقة سوقاً للسيارات المستعملة الأربعاء من كل أسبوع على الجهة الاخرى من الجزر الخضراء بالإضافة إلى مجموعة من الأكشاك الخشبية والنصبات التي تستطيع أن تحصل منها على كوباً ساخنا من الشاي أو القهوة,حمص الشام.أو ورقتين بفرة تحملهما إلى إحدى المظلات وسط الأشجار القريبة لتحصل لنفسك على سيجارة تعدّل من مزاجك .
في هذا الشارع مشيت يوماً ما مع الفتاة الوحيدة التي شعرت معها بأحاسيس حقيقية وشكلت مفاهيمي وانطباعاتي عن النساء,..في كل فتاة عرفتها بعدها وانجذبت إليها وجدت جزءاّ منها و ظللت دوماً أفتقد الكل..كنت في سنتي الجامعية الأولى قد ذهبت إلى صديق لي يسكن بشارع الاستاد لأحصل على بعض الاوراق والمذكرات ثم جلسنا سويا نحاول الاستذكار وحشو أي معلومات في أدمغتنا مع شعور بأنه لا جدوى,في ذلك اليوم الشتوي الممطر المثقلة سماؤه بغيوم سوداء جلسنا في مقابل بعضنا إلى منضدة لها قرص زجاجي على قاعدة معدنية وقد أشعلنا ثلاث شمعات في منتصف القرص بعد أن انقطع التيار الكهربي,يتراقص ضوء الشموع على وجه صديقي ويبدو أنفه أحمراّ بشدة وهو يقرأ في كتاب علم الوظائف الحيوية-الحجم الأول,أشعر بالرعب الذي نتشاركه تجاه هذه الكتب والمذكرات التي ترقد أمامنا تنتظر أكثر من مجرد الإطلاع عليها,ارتجف من البرودة ومن القادم ولكنني احمل املاً بأنني قد أراها اليوم,قد تسمح لي هي بذلك..أخبرتها أنني أحتاج أن اتحدث معها في أمر مهم,لم توافق,كنت أريد ان أراها وأشعر بوجودها قربي وكان هذا أمراً مهماً لي,لماذا لا تدرك هذا,لم تتصل فاتصلت أنا, أخبرتني بأنها لا تستطيع مقابلتي,ألححت عليها فوافقت وأخبرتني أنها ستغادر سريعاً,أنهيت المكالمة وانا على أمل أن تبقى أكثر,أخبرت صديقي أنني سأرحل ثم غادرت مسرعاً,لا أصدق حتى أنها ستأتي حتى أراها تنزل من التاكسي أمام الاستاد وقد توقف المطر وبقيت الغيوم’,تبتسم وتتجه ناحيتي,أشعر بدفء غريب ينتشر في داخلي وهي تقترب,أشعر بالحياة تقبل عليّ,أتخيل الحياة دونها وتهبط عليّ ظلمة مفاجئة فأطرد هذا الخاطر في الحال,تسألني عن حالي وهي تنظر لي بتلك النظرات الجانبية التي تعرف جيداً كيف تلقيها مع تلك الابتسامة التي تحمل في إحدى أوجهها سخرية وفي وجه آخر شفقة وكأنها تقول ((ياللمسكين)),أراها فأنسى الوظائف الحيوية وما ينتظرني من لحظات سوداء أنا الذي ينتظرني أول اختبار نهائي لي في الكلية بعد أيام ولا أعرف حتى كيف أجلس لاستذكر أي شيء,وددت أن أنسى هذا ولو لساعات قليلة,تقف بجواري ولكنها في عالم آخر,تخبرني أنها سترحل الآن وانها متأخرة فأقول لها أن تبقى قليلا,أشير إليها بأن نتمشى قليلا حتى تجد ما تركبه,تسير إلى جواري وقد خلت الشوارع من حولنا بتأثير المطر ثم نعبر الطريق إلى الجهة المقابلة,نعبر بين أتوبيسين عملاقين فأشير بيدي لها أن تتقدمني تبتسم وتبدأ في السير أمامي وجسدها الجميل يتمايل بتلك الطريقة العشوائية البدائية الغير متكلفة,أسمع صوت نبضي في أذني وأشعر بالدم يندفع إلى رأسي حاملاً الدفء وقد نسيت تماما الواقع الذي ينتظرني,يبدأ المطر مرة أخرى فنسير مسرعين ونحتمى في مدخل سينما نانسي التي تقع خلف المجمع,أتكلم وأتكلم محاولاً ان أحرك مشاعرها,تخبرني أن قميصي يعجبها,تحرك إصبعها تتحسسه مسرعة ثم تعيد يدها وهي تنظر لي مرة أخرى بتلك الطريقة التي أحبها وتبتسم فتشعل بداخلي الحيرة,في هذه اللحظة أخبرتها مرة أخرى بمشاعري تجاهها فلم ترد وإن احتفظت بابتسامتها المحيرة تلك ونهضت لتخبرني أنها يجب ان ترحل,أطلب منها برجاء أن تبقى قليلاً ولكنها تصر على الرحيل,أعيد الرجاء ولكنها ترفض وتتحرك,أسير إلى جوارها,أتحدث وأتحدث وهي ترد بجمل قصيرة وسريعة,نقف في انتظار حافلة فلا تأتي,تقول لي أنها تشعر بالذنب وان هذا لا يرضي الله فأطلب منها أن نسير سوياً باتجاه محطة الحافلات وفي المقابل سأغني لها وأنظر إليها مستعطفاً,تقرقر كالأطفال وتتقدم,نسير على الرصيف المجاور للجزر الخضراء في نهر الطريق باتجاه المدينة الاصغر,أغني لها بالفرنسية مقطوعة ثنائي الزهور,تسألني باستغراب عن معرفتي بالفرنسية فأهز رأسي بسعادة,أقول لها معنى الكلمات:
تحت القبة السميكة
حيث الياسمين الأبيض
يتجمع على الوردة
في نهر الزهور
يضحك في الصباح
تعال,دعنا ننزل
سوياً
تبتسم في خجل وتتحسس خصلة الشعر المتدلية على جبهتها من حجابها,أفقد أنا شعوري بكل ما حولي,تخبرني أنها تشعر بدوار خفيف وترغب في الجلوس فنجلس إلى مظلة قريبة,تقول لي:أكمل
بلطف,دعنا ننزلق
حول فيضانه الساحر
دعنا نهرب معه
التيار
بيد واحدة غير مهتمة دعنا
نصل للضفة
تعال,دعنا نجد الضفة
حيث ينام المصدر
والطيور,الطيور تغني
تحت القبة السميكة
تحت الياسمين الأبيض
دعنا ننزل سوياً
ثم رددت هذا المقطع في رأسي وأنا أنظر إليها صامتاً ساهما:
ولكن,لا أعرف لماذا
خوف مفاجيء
يجرني للخلف
عندما يذهب أبي وحيدأً
إلى مدينتهم الملعونة
أنا ارتجف,ارتجف من الخوف
تمد يدها إلي وتمررها على مقدمة شعري ثم وجهي وأنا لا أتحرك,تنهض وتخبرني أنها تأخرت كثيراً تشير إلى تاكسي يقترب وتنظر لي بحنان وهي تفتح الباب,تستقر في المقعد الخلفي فأرى ظلالا من وجهها وقد بدأ الظلام في الهبوط,أضع يداي في جيبي معطفي واضغطهما بقوة على جسدي والسيارة تبتعد.
ولم اسمع منها أو عنها مرة أخرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق