N.B:هذه القصة كتبتها منذ خمس سنوات مضت
دكتور رمزى البسيونى طبيب الأسنان الذى يعيش وحيدا فى بيته القديم المطل على منطقة السوق المناوءة للنيل بمدينة رأس البر التى تمتزج فيها مياه النيل بالبحر المتوسط..أخذت اتأمله فى بادىء الأمر وهو غارق فى مقعده وقدماه على مقعد مقابل ,يغطى بالجريدة وجهه و تخيلته مجرد عجوز على المعاش يقرأ الجريدة ويرتاح قليلاً وقد اقترب وقت القيلولة,فيما بعد تعجبت القدر الذى رتب أن يوقف أخى السيارة بالذات أمام هذا البيت الذى يرقد كالسلحفاة العجوز وسط الاستراحات والفيلات حديثة الطابع وينزل ليبحث عن صديق له يعمل فى كافتيريا قريبة,نزل أولاد اخى من السيارة وأخذوا فى إحداث جلبة استيقظ على إثرها العجوز ووقف مستندا إلى سور شرفته التى تقع فى الطابق الأرضى من منزله ذى الطابقين وارتسمت على وجهه الممتلىء بالتجاعيد المتداخلة والمتقاطعة والصلبة كأنها رسمت على قالب من الصلصال ابتسامة اخذت تتشكل ببطأ شعرت معه أن الخطوة التالية هى أن يتهشم وجهه ويسقط على الارض..أخذ بعدها يلوح لهم بيده واتسعت ابتسامته أكثر وأكثر,أدرت بصرى فى البيت ومحيطه بطابعه القديم المختلف عما حوله فواجهتنى لافتة كتب عليها..د.رمزى البسيونى أخصائى جراحة الفم والاسنان بالمستشفى العام,اقتربت منه وسألته:(حضرتك دكتور أسنان مش كدا؟)..فرد:(أيوا يافندم..أأمرنى) ..عندما اقتربت منه شعرت بسنه الكبير فعلا الذى يقارب الثمانين وبيجامته المتهدلة على جسده النحيف,بيجامة كانت أنيقة يوما ما لوثت اطرافها بقع من عصير البرتقال كتلك البقع التى تلوث ما حول فمه ويطل من تحتها بول أوفر قديم خاط هو اطرافه بخيط ابيض يبدو واضحا من لون البول أوفر الداكن وبطريقة غير احترافية بالمرة ونظارته الشمسية التى ترفع عدساتها لأعلى ليتبدى من تحتها عدسات اخرى للقراءة..
-((أنا طالب فى كلية الطب))
-((طب القاهرة؟))
-((لا طب المنصورة))
-((تشرفنا..أنا كنت وكيل وزارة الصحة فى دمياط هنا ومسكت كمان مدير المستشفى العام بس أنا دلوقت بقيت على المعاش.. خلاص..الجماعة دول أهلك مش كدا؟..ما تيجوا تتفضلوا؟))
-((أيوا أهلى..الله يخليك يا دكتور شكرا..إحنا لسه واصلين..أكيد هعدى أقعد مع حضرتك شوية لو تسمحلى))
-((أكيد لازم تيجى..هستناك فى أى وقت لو فاضى بالليل ابقى تعالى نقعد شوية..زمان كان الأطباء كلهم بييجوا يقعدوا عندى هنا))
فى هذه اللحظة عاد أخى ومعه صديقه فاستأذنت منه..فقال لى بعينيه التى حال لونها قبل لسانه:((هستناك))
ابتسمت له ابتسامة مطمئنة وقلت:((وأكيد))
ثم صافحته وعدت إلى السيارة لتسألنى والدتى:((مين دا؟))
-((دا دكتور أسنان على فكرة..هبقى انزل اقعد معاه شوية بالليل))
-((وهو إحنا نعرفه..إنتا أى حد كدا تروح تقعد معاه..مبتسمعش عن المشاكل اللي بتحصل..مانتاش رايح فى حتة بالليل على فكرة هتفضل معانا))..قلت لنفسي..(أي كلام)
-((ربنا يسهل يا ماما))
************************************************************
بعد أن استقر بنا الحال في الشقة المطلة على ذلك الممر الطويل الذي يشق طريقه لمسافة يسيرة في البحر و التي اشتراها والدي قبل سنوات قليلة من وفاته,بدأت أمي وزوجة أخي في التنفيض والتنظيف بينما ذهب أخي ليجلب احتياجاتنا خلال إقامتنا هنا وأخذ الصغار معه,فتحت باب الشرفة بصعوبة ثم حملت مقعدا ورواية وجلست أقرأ واتأمل تلك الأجساد الممدة أسفل الشمسيات تتظاهر بالسعادة حتى ينتهوا جميعا ونتوجه كلنا إلى الشاطيء,الهواء يحمل الدفء والبرودة يلطم وجهي ويعطيني شعورا بالانتعاش فأغوص أكثر فى المقعد وتسري في جسدي قشعريرة الانتشاء..تذكرت أبي لما غاب عنا لأول مرة عندما سافر مع ذلك الوفد الاقتصادي التابع للبنك الذي كان يعمل به..في بداية فترة الغياب لا تشعر بأن شيء قد تغير خصوصا مع طول العزلة في غرفتك إما للدراسة وإما للقراءة والتأمل..مع الوقت تعتاد هذا الغياب وتظل هناك ذكرى بأنه سيعود بعد فترة ما ثم تنساها بعد ذلك حتى يجيء يوم العودة..ولكن الامر بدأ عندما عاد فعلا..الشعور فعلا بأنك كنت مكشوفا إلى حد ما في هذا العالم دون هذا الرجل الذي يعطي مجرد وجوده في المنزل الشعور براحة ما..تفكر كيف أنك على الرغم من طول فترات انعزالك كنت تعشق هذه اللحظة التي كان يدخل فيها عليك غرفتك ليتكلم معك أو ليسألك عن أمر ما فتظل تتحدث معه بعصبية ولا تنسى في النهاية أن تقول له بأن يطرق الباب في المرة القادمة..((والنبي يا بابا احترم إني ليا خصوصيات)) ولكنه يكررها ويتكرر تذمرك..عندما تستيقظ عند الفجر لتجد صوته الخافت يردد الأدعية في صالة المنزل استعدادا للنزول للصلاة وكيف كنت تستيقظ في غيابه في ذات الوقت فيلطمك الصمت المطبق فتعاود النوم وفي أحشائك شعور ما لا تدري طبيعته..شعوري بالتقدير الكبير الذي يحمله لي بداخله وإن بدا عكس ذلك في بعض الأحيان وكيف كنت أتقبل كل هذا التناقض فى التعامل بروح الكل الذي لا يتجزأ..تبدأ في الشعور فعلا بأنك تحب هذا الرجل وأن وجوده شيء أساسي وحقيقي لكي تستمر هذه الحياة....كل هذا يراودك بعد العودة لا عند الرحيل..لهذا لم أعد استغرب غياب أبي وكيف لم أذرف دمعة واحدة يوم وفاته..الرحيل يختلف كل الاختلاف عن العودة..ومنذ زمن كنت قد اعتدت الرحيل..لم يكن يعرف كيف يعبر عن محبته لي..نجلس صامتين فيخيل لي انه يتأملني بحب فالتفت إليه لأجد لا مبالاة تامة..لم يجلب لي يوماً شيئا اتذكره وأقول هذا من أبي..لم نخرج معاً أو نسافر سوياً ولا توجد صورة واحدة تجمعنا..كل ما أتذكره شبح يدخل إلى غرفتي كل ليلة ليحكم الغطاء حولي ثم يطبع قبلة على وجهي وانا على حافة الحلم,هذا فقط ما يؤكد لي ان وجود أبي كان حقيقيا,بأنه كان لي يوما ما جذوراً في هذا العالم ..عاد أخي وانتهت أمي وزوجته من كل شيء وبدأ اخي في القاء الدعابات فأشاركه إياها وأنا ارسم على وجهي ابتسامتي الزائفة المعتادة.
************************************************************
كانت تقول..نعم,أنا أخاف على سمعتي ومن المجتمع والأهل ولكن ما أشعر به في هذه اللحظة هو أنني سعيدة....كنت أشعر بصدق هذا الكلام فعلا عندما قالته في لقاء بيننا,نعم هي أقل من طموحاتي عقليا ونفسيا وحتى على مستوى العائلة وغيرها,ولكن لا أدري لماذا أتذكرها وأشعر بهذا القدر من اللهفة على رؤياها بقامتها المنطلقة المثمرة ودفء جسدها حين تلتصق بي في جلستها,استجاباتها السريعة لي بمجرد التفكير في قول شيء ما وشعوري أنها كانت تنتظر هذه الفرصة..لا أعتقد أنه حب وأخاف ان يكون اشتهاء..بل إنه ليس حبا..ربما هي الرغبة في أن يكون هذا الجسد الفارع البكر الذي تحاول أن تخفي تفاصيله بارتدائها (تونيك)طويل واسع قليلا ملكك أنت..ربما أنت تريد أن تتلقفها وهي ما زالت بهذه البراءة والطهر وقبل أن تتلوث..خجلها من الحديث إليّ في باديء الأمر الذي سرعان ما زال بعد أن بدأت أنا الحديث..اهتمامها الزائد بكلماتي وتقديسها لها وكأنني أنطق بالحكمة مقطرة..ربما لبراءتها وخلوها إلى حد ما من أقنعة الزيف التي سئمتها في كل من حولي.واحتفاظها على الرغم من تظاهرها بالعكس بطريقتها الريفية التي أحبها..أراها منذ أن كانت طفلة أمام عينيّ بجسدها الذي فار وانسكب مبكرا..شعور بالاهتمام بي كانت تحاول إخفائه بطريقتها البكر لكني تلقفته رغم قلة رؤياي لها..لا أريد أن أنسى كذلك ما شعرت به حين اقتربت بفمي من أذنها لكي أخبرها بما لم تسمعه..لم أتلقى أي رد فعل يدل على نفورها..بالعكس..شعرت بها تناديني..تذكرت كذلك كيف خفت..خفت من ذلك التحول الطاريء عليّ..لا أحب الدخول في علاقات أعرف نهايتها وتكون المشكلة مشكلتي أنا..أنا مثل البحر الذي يرقد أمامي الآن يبدو هادئا تماما ولكن الأمواج تستعر في أعماقه استعدادا لأن تقلب كل شيء رأسا على عقب..أحيانا تنتابني تلك الفكرة..ألا يكفيها ما قدمته لها من شعور بتقدير لذاتها بسبب وجودي في حياتها..يدور السؤال في ذهني..هل تفكر هكذا حقا..والإجابة المخيفة أنه نعم..طريقة حسمها الأمور بسرعة وسذاجة لا تناسبني..شعورها بالتضاؤل أمامي وحسابها لكل كلمة أنطق بها في حقها..شكها..قلقها..كل هذا لا أستسيغه ولا أحبه ولكني أتفهمه لا أفهمه..ربما كنت انوي تشكيلها كما أحب..ربما أردت أن أضع بها حدودا لعالمي الذي يتمدد دون سيطرة مني..سمعت أمي تكلمني: ((تشرب شاي ولا قهوة))..كانت قد أوقفت ذلك الفتى الصغير فى التاسعة من عمره تقريبا يرتدي طاقية تخفي وجهه بالكامل وهو ينحني ليصب الشاي فى أكواب بلاستيكية عندما انسدلت تلك الضفيرة البنية من أسفل الطاقية ورفع أجمل وجه رأيته في عمري الغير مديد..كانت فتاة..فتاة بكل ما يعنيه هذا من معاني لي..العيون الواسعة التي غطى لونها البني المذهب على معظم بياضها,تنسدل عليها رموش ليست بالطويلة ولا القصيرة لكنها ساحرة..البشرة الناعمة الخمرية التي غطاها الفقر بالأنيميا والشحوب ولكنها ظلت رغم هذا تبرق ببريق خافت كاللؤلؤ..الملابس الرثة التي تغطي الجسد الطفولي النحيف بالفقر الرشيق من العناء..ويدها التي تحمل ترمس الماء الساخن..يد لوحتها الشمس وملح البحر ولكنها ظلت شفافة نظيفة وكأنك لو لمستها لانكسرت..لماذا لم نولد لنا نفس العمر في نفس المكان يا فتاة..ربما لاختلف الأمر وقتها..كانت تنظر لي منتظرة إجابة مني فسألتها : ((اسمك إيه؟))
فردت: ((أميرة يا أستاذ))
*****
في المساء مشينا إلى منطقة اللسان حيث يعانق النيل البحر المتوسط برفق أحيانا وبقوة أحيانا أخرى..كانت الساعة تقترب من العاشرة مساءا وشعور كالمخدر تماما يسري في رأسي..تشاجر أخي مع زوجته وتركنا ورحل كالعادة..حاولت معه ومع زوجته بكل الطرق دون فائدة..السبب؟!...لن تصدقني إذا قلت لك أنه ارتدائها (إيشارب)أحمر..هو يحبها جدا ولكن أشعر دوما بعدم ثقته بها,حديثه الدائم عن النساء اللائي يعرفهن وأنه يرغب في الزواج من أخرى يعطيك انطباعا بعدم الثقة بالنفس,حدث مرة أن ارتدت النقاب ارضاءا له دون أن يطلب ذلك فشعرت به منتشيا منتعشا ولكنها تركته بعد فترة فاستشاط غضبا وبقيت عند أهلها مدة شهر تقريبا,هي كذلك لا تثق به,ربما هو فعلا السبب في كل هذا, فأخي وسيم ولا أحد ينكر هذا,وهو كذلك لا يكف عن ملاطفة النساء..زوجته كذلك شهية ولا تفهم كلامي دون محله.. أنا فقط أوضح الصورة..المهم أن الأمسية بات محكوما عليها بالفشل والضحية هم الأطفال الذين اشتكت إحداهم إلي قائلة :((هو بابا كدا دايما يا عمو يبوظ علينا أي خروجة)),مما يعطيك انطباعا عن مدى هيمنة الأم عليهم,أو ربما هي عاطفتها الصادقة,ذهبت ابحث عنه في كل مكان فلم أجده,هكذا تناولنا العشاء في منطقة السوق ثم توجهنا للسان.
تركتهم وجلست على إحدى الصخور المواجهة للبحر,بعد قليل نظرت إليهم فوجدت أخي قد عاد وأخذ يداعب الصغار فنظرت إلى البحر وأنا اجتر الذكريات اجترارا,ذكريات أعادتها إلي النغمات التي تتسرب إلى أذني عبر السماعات ,أتعجب أحيانا من مدى ارتباط الأغاني بذكريات معينة,يمر الأمر بالكامل أمام عينيك بينما الكلمات والنغمات تداعب مراكز الحنين في المخ ..تشعر بتلك الرعشة الخفيفة تجتاح جسدك..في أحيان أخرى كانت الأغاني والألحان بالنسبة لي كأنها صنعت من أجل قصة ما بالذات..كأنها نبتت هناك في مخيلة مؤلف مبدع وملحن بارع في انتظار موقف ما أن يحدث..أو مؤلف ما أن يكتب روحها في رواية..أحيانا كان يحدث العكس..أمسك بنفسي أحيانا أفكر بنفس طريقة أخي..ربما هذا هو سبب مشاكلي معها..في البداية كانت لا تعني لي أكثر من مجرد تجربة مثيرة كنت أراها عادية تماما حتى عندما تعرفت عليها بشكل عفوي تماما لم تكن أكثر من مجرد صديقة..أحببتها..نعم..تستطيع أن تقول هذا..بل أن تراهن عليه..ما حدث بعد ذلك ربما يؤيد كلامك..رباه ما الذي جاء بهذه النغمات التي تنساب إلى أذني في هذه اللحظة بالذات!..الصوت الفيروزي يصدح قائلا بأن( الهوا) قد نسم علينا من مفرق الوادي..ربما لم أكن أشبه أخي رغم كل هذا..جاء الأمر بشكل سريع لم أكن أتوقعه عندما قلت لها عبر رسالة قصيرة على هاتفها المحمول..أحبك..وقالتها كذلك..حتى هذه اللحظة لم أكن متأكدا من هذا,ربما قلتها لأنها كانت المتاحة وقتها..عندما ابتعدت أيقنت بالحقيقة..ربما هي أعطتني لمسة دفء في بحر صاخب متلاطم أو أنها قد جاءت في الوقت المناسب لها وربما في ظروف أخرى ما كنت لالتفت لها,ولكن منذ متى والحب لم يكن نتاج مجموعة من الأحوال والظروف النفسية والقدرية..تتجمع وتتشابك وتتشعب حتى يصبح من الصعب عليك أن تغادر بسهولة..هنا فقط كان الرحيل صعبا ومازال..عندها تتوقف حياتك تماما وأنت على أمل..تراقبها من بعيد وأنت على أمل..تدرك الحقيقة..حقيقة أنك كنت أنت التجربة المثيرة بالنسبة لها..وبأنك قد أصبحت مملا الآن..ولكنك تظل على أمل..تقدم التنازل تلو الآخر وأنت على امل..تفقد روحك ذاتها والأمل لم يخبو بعد..أهز رأسي بشدة محاولا أن أنفض منها كل هذه الأفكار فلا أصيب إلا بعد الدوار..جاءت وجلست إلى جواري..كنت أعشق عينيها ونظراتها الخجولة لي..ضممتها بذراعي فالتصقت بي وأراحت رأسها على كتفي وأنفاسها الدافئة تتردد على أناملي وعطر خفيف من شعرها الثائر الذي أحبه يتهادي بين خياشيمي فيعيد إلي الروح.
((يلا يا عمو)),كانت هذه ابنة أخي ..طفلة رائعة..دقيقة فكل شيء..الأنامل..الأنف..الفم..عدا عينيها الواسعتين..كانت كالملائكة فلا ينقصها سوى هالة حول رأسها..قلت لها:((يلا يا حبيبتي!)).
**************
الحياة كذبة كبيرة فلن يضيرها بعض الكذب العميق المغزى..((ماما هشتري قهوة وجاي..))..كانت هذه في طريق عودتنا للمنزل..((متتأخرش))..توجهت بعدها إلى منزل د.رمزي,تذكرني بصعوبة وكان لم يغادر مكانه منذ الصباح!,غاب بالداخل قليلا ثم عاد بكوب من عصير البرتقال لم أمسه أبدا..هو حتى نسي أنه كان قد جلبه لي وأتى عليه بالكامل..قال لي:
-((تعرف إني اتسرقت من كام يوم..أنا فضلت قاعد كدا وهما خدوا كل اللي هما عاوزينه وكأني مش موجود أصلا..من فترة والناس بطلت تعتبرني موجود..))
-((إنما حضرتك مين بياخد باله منك أنا ملاحظ إنك قاعد هنا من الصبح ؟!))
-((الواحد لما بيعيش لوحده فترة طويلة بيحس إن الناس ملهمش قيمة أو فايدة غير إنهم يزعجوك أو يسرقوك قولتلي إنتا في طب المنصورة؟..أنا كنت في طب القاهرة بس كان ليا أصدقاء عندكوا))
-((المنصورة بقت زحمة..بس تقريبا لسا زي ما هي..))
-((زمان كان فيه قهوة على النيل كنا بنيجي من القاهرة مخصوص نقعد عليها..المنصورة في الشتا بعد المطر كانت جميلة..مدينة صغيرة نضيفة ومترتبة..وفي الخريف كانت المدينة بتكون ..بتكون..)) وأخذ يحاول التعبير بيده ثم قال:
((فيها شيء حزين شفاف بهيج وحزين..تحس كأن ذكرياتك بتدور طايرة في الجو وإنتا بتحاول تمسكها)) ثم تابع::((تعالى هفرجك على البيت))
-((لو حضرتك تسمح))..ثم تبعته إلى الداخل,كان البيت عتيقا فعلا كصاحبه..ربما لو فتحت المعجم لوجدت صورته بجوار كلمة عتيق!..الأثاث قديم تغطيه طبقات وطبقات من الأتربة ولكنه فخم جدا تحلق في وسط الصالة ثريا فخمة جدا قد تجد شبيهتها في قصر الجوهرة ! سقف مرتفع ونوافذ ضخمة والحوائط مغطاة بورق حائط موصوم برؤوس وعل جبلي تضاهي الثريا في فخامتها,في أحد الأركان تنتصب مرآة بجوارها مشجب معلق عليه معطف للمطر وشمسية..وتحف ذات طابع إغريقي وأخرى من الشرق الأدنى تتناثر هنا وهناك والعناكب تمرح بينها ولوحات ربما تعود إلى عصر النهضة!,ثم اقتادني إلى ردهة تتناثر على جانبيها الغرف وتقود إلى صالة أخرى تتناثر فيها المقاعد وجهاز تليفزيون عتيق يعود إلى ستينيات القرن الماضي يتوسط مكتبة ضخمة تضم المئات من الكتب..((أنا كنت بحب القراءة جدا خصوصا الفلسفة وليا مؤلفين تلاتة فيها..كانت مراتي بتشتكي مني لكل الناس بسبب إني يا إما في العيادة يا إما قاعد أقرا ومحبوس في مكتبي..الأولاد مكنتش بقعد معاهم تقريبا إلا بالصدفة..أنا كان عندي عيادة مشهورة في ميدان محافظة دمياط))
-((وهما فين دلوقت حضرتك؟))
-((ماتوا..سواق العربية النقل عمل اللي يقدر عليه عشان يمنع الحادثة الحقيقة بس أنا مكنتش مركز..))
-((أنا آسف..))..هنا اقترب مني والشرار يكاد يطق من عينيه وزعق في:((مفيش حاجة في الدنيا اسمها آسف..هي مقدمات ونتايج..الدنيا نفسها متستحقش دا..عاوز تكون عارف إنك كدا كدا هتموت في حادثة في كرسيك هتموت..اتأسفت وأنا قبلت أو لأ هتموت..ما القيمة إذا..عاوز الحقيقة.. الحقيقة أنا اللي قتلتهم))..تعجبت جدا من طريقة تفكيره والشكل الذي احتد به علي ولكني شعرت بلذة ما فيما يقوله أخبرني بعدها أنه لا يؤمن بشيء على وجه التحديد عدا انعدام القيمة وأنه قد يبدأ في الإيمان بشيء إذا دله أحد على طريقة للخلود ثم وقف امام المكتبة وانتقى كتابا غريب الشكل تناثرت فيه رموز عبرانية كنت قد رأيت مثيلا لها من قبل على أحد مواقع الإنترنت أخذ يقلب فيه وهو يقول:((أنا عملت حاجات رهيبة تكفي لحرقي في ميدان عام بعد تقطيع جسمي حيا ورشه بالبهارات..حاجات أنا نفسي بفتكرها فأتقزز ومبعرفش أنام)) وحمل الكتاب وقال لي:((تعالى..)) وتوجه إلى السلم الذي يقود إلى الطابق العلوي تبعته وقد انتابني التوتر بأكملي من هذا الرجل الغريب فعلا وتساءلت عما يعنيه حقا من كلامه,الطابق الثاني يتألف من أربعة غرف على الجانبين توجه إلى الثانية على الشمال ثم دخلها,جريت لألحق به ودخلت إلى الحجرة الخاوية تماما إلا من قفص..((دكتور رمزي..))..((....))...((دكتور رمزي إنتا فين؟))..اقتربت من القفص لأجد أرضيته الملطخة بالدماء..فأجفلت وأنا اتراجع بظهري لأرتطم بالباب,ثم اخذت أصيح باسمه دون أي مجيب,نزلت للطابق السفلي وكررت النداء دون مجيب,خرجت لأحصل على أي مساعدة فوجدت محل بقالة قريب يستعد صاحبه للإغلاق في هذه الساعة المتأخرة,طلبت منه أن يأتي معي لمساعدة د.رمزي.
-((دكتور رمزي مين يا أستاذ؟))
-((دكتور رمزي اللي بيته هناك..))
((دكتور رمزي مات من 20 سنة يا أستاذ..))
-((!!!!!!!))
-((تلاقيه واحد لا مؤاخذة بيشتغلك أو حاجة..أنا هنا من 40 سنة..كان راجل محترم مش عارف ايه اللي جراله..اتجن..عذب مراته وعياله ورماهم لديب كان حاطه في قفص بعد ما جوّعه أسبوع كامل وبعدها حبس نفسه معاه..ديب يا أستاذ اللهم احفظنا !))
نظر لي بعيون متسعة ووجه ملتاع..استمر في ذلك لثوان, ثم انطلق في ضحك هستيري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق