سقطت القهوة على الرواية التي كان يقرأها وعلى أوراقه فلعن حظه السيء .شرع في إبعاد التليفون والأشياء الأخرى على مكتبه وطلب من العامل أن يجلب شيئا لتنظيفه وعندما انتهى جمع أوراقه وهاتفه المحمول والرواية وألقى بهم جميعا في حقيبته وغادر مكتب المحاماة الذي يمتلكه وهو يحاول السيطرة على أنفاسه فأراح ربطة عنقه ومسح على شعره الناعم بينما يعبر باب العمارة إلى سيارته ليستقلها ويغادر.
أدار الراديو وتنقل من محطة لأخرى فوجد أغنية مايكل جاكسون ((استسلم لي)).ردد كلمات الأغنية وهو يهز رأسه مع الموسيقى بقوة ومنى نفسه بأمسية سعيدة يقضيها مع زوجته وهو ينطلق بسرعة وقد مالت الشمس إلى المغيب واصطبغ الأفق بلون برتقالي محبب ونسمات من الهواء المنعش اللطيف تداعب جسده وتعطي شعورا منعشا باردا مع العرق الذي غطاه بالرغم من انخفاض حرارة الجو. انحرف بسيارته وقد اقترب من منزله أمام أحد فروع سوبر ماركت شهير ودخل إليه وتجول بين صفوف الطعام المتراصة هنا وهناك فجلب بعض التفاح الأحمر ثم حصل على شريحتين غنيتين من اللحم البقري ومد يده وهو في طريقه للخارج فسحب صندوقا صغيرا من شيكولاتة كواليتي ستريت التي تحبها زوجته ودفع النقود ثم غادر.فتح الصندوق الخلفي للسيارة ووضع الأكياس بها وبينما هو يهم بإغلاقه لمح ذلك المحل الصغير لصناعة اللافتات على الجانب المقابل من الشارع. أغلق الصندوق ببطء ثم عبر الشارع إلى الجهة المقابلة.وجد بابا زجاجيا مكتوب عليه ادفع.دفع الباب ببطء ودلف إلى الداخل ليجد رجلا في منتصف العمر يجلس إلى مكتب صغير ممسكا بفرشاة صغيرة يكتب بها على لوح صغير من الخشب اسم أحدهم وقد علقت على الحائط خلفه لافتات متعددة الأشكال وشرائح معدنية نحت عليها أسماء أصحابها لتوضع على مكاتبهم أو من الرخام لتعلق على مقابرهم.
((أريد لافتة معدنية يمكنني تثبيتها على لوح مكتبي))
ثم أخرج ورقة صغيرة وكتب عليها اسمه:
أمير عدلي
المحامي
دون المقاس واللون المطلوب ومرر الورقة إلى الرجل الذي تناولها دون أن ينظر إليها بابتسامة سريعة كأنه يعرفه وأودعها أحد الأدراج وطلب منه أن يختار فورمة الخط المناسبة من اللافتات المعدنية خلفه فأجال فيها نظره سريعا واختار واحدة فأشار لها فأخبره الرجل بأن يمر بعد يومين وأخبره بالمبلغ المطلوب فدفعه وتناول الإيصال وهم بالمغادرة عندما وقع نظره على تلك اللافتة من الرخام الأسود المكتوب عليها بماء الذهب:
المرحوم
أمير عدلي عبدالملك
توفي في31ديسمبر 2016 الموافق2ربيع ثان 1438
وقف للحظة لا يفهم وإن لم يتغير التعبير على وجهه،هذا اسمه وتاريخ الوفاة تحته هو اليوم بالذات،وقف محدقا باللوح لا يستطيع أن يفكر بأي شيء،رآه الرجل فابتسم وسأله:
-((هل يعجبك تصميمها يا أستاذ..يمكنني أن أصنع لك واحدة تعلقها على باب مكتبك من الخارج))
-((لمن هذه؟من طلب منك صنعها؟!))
-((جاءني رجل منذ فترة وأخبرني أن الطبيب قد أعلمه بوفاة أخيه في خلال هذا الشهر وطلب مني أن أعد هذا اللوح بتاريخ نهاية العام..عافاك الله وأعطاك طول العمر))
غمره شعور بالحيرة أكثر منه بالخوف وازدادت ضربات قلبه بغتة وهو يقول بصوت متردد :((أشكرك!)).
********
فتحت زوجته الباب بهدوء وتطلعت إليه بابتسامة مشرقة وكان يحاول إيلاج المفتاح عدة مرات ففشل،لم يستطع أن يبادلها نفس الابتسامة وهو يتقدم إلى الداخل فهزت رأسها باستغراب وتبعته للداخل.ألقى بحقيبته والأكياس فتناولتها وهي تسأله :((لماذا يبدو وجهك شاحبا..هل كان يوما مرهقا لهذه الدرجة؟))
رفع رأسه إليها ببطء ونظر إليها بارتياب وكان صوت ضربات قلبه في أذنه قد غطى على صوتها الذي تلقي به دعاباتها المعتادة قبل أن تغادر إلى المطبخ،،بالتأكيد هي من أعد هذا، من غيرها،من سيطلب من صانع اللافتات القريب من المنزل أن يعد شاهدا لقبره غيرها،إذا فشكوكه صحيحة،تلك النظرات التي كانت تتبادلها مع صديقه أكرم لم تكن بريئة كما أعتقد،تلك المكالمات الهاتفية مع صديقاتها في وقت متأخر،المحل القريب من المنزل،هذه الساقطة تخطط لقتله مع رفيقها،تخطط لقتله اليوم بالذات ثم تستقبله بتلك الابتسامة على وجهها. تعجب من القدر الذي جعله يدخل إلى ذلك المحل اليوم.
((ثم يقول ساقط أن الله غير موجود))
قال لنفسه،ثم قرر أن يتابعها لعله يستشف من حركاتها شيئا ولكنها تمارس حياتها بالبراءة المعهودة منها،أحضرت طبقا به بعض التفاح وبدأت في تقشيره كما يحب،لم يستطع أن يتحمل أكثر فنهض من مكانه وتوجه إليها ثم مال برأسه ناحيتها،أجفلت واضطربت رموشها من نظرته فاعتبرها إشارة على خيانتها فلطمها بقوة وانهال عليها بالصفعات والركلات وهو يصب عليها أقذر ما أعانه به ذهنه ثم سحبها من شعرها وألقاها بالحمام وأغلقه وغادر الشقة كالثور الهائج.
في سيارته حاول عدة مرات الاتصال بأكرم ولكن هاتفه كان مغلقا.اتصل بمكتبه فأخبرته سكرتيرته بأنه خارج البلاد وسيعود بعد أسبوع.انطلق بالسيارة يجول المدينة دون هدف حتى وجد نفسه على أحد الطرق السريعة،توقف في إحدى محطات البنزين على الطريق فدخل إلى الكافيتيريا الملحقة بها وحصل لنفسه على كوب من القهوة باللبن وجلس في أحد الأركان يتأمل الجميع،واتته رغبة بأن يحمل المسدس المعلق بجانبه ويفرغه بكل ما يتحرك لعل النار بداخله تهدأ،تأمل زينة أعياد الميلاد المعلقة بكل مكان ثم أغمض عينيه ومال برأسه.
((عام سعيد يا أستاذ هل من الممكن أن أرتاح قليلا بجوارك))
طالع هذا الرجل الذي يرتدي ملابس سانتا كلوز،قيمه بنظرة واحدة ثم هز رأسه فجلس.
ساد صمت فعاد يميل رأسه ويغمض عينيه وقد تصاعد البخار من كوب قهوته فشعر به دافئا على أنفه وهو يميل الكوب ليرشف منه.
((لقد سئمت هؤلاء الصغار المثيرين للتقزز مع آبائهم المدعين..لم أجلس منذ الصباح الباكر))
كانت هذه من سانتا، التفت إليه فأكمل:((ربما لازال الخطر قائما)) ثم نهض ليستقبل طفلا صغيرا فاتحا ذراعيه.ربما لازال الخطر قائما،فكر في هذا الاحتمال،أدار رأسه ينظر إلى الخارج عبر زجاج الكافيتيريا،هذا الرجل هناك الذي أوقف ليملأ خزان وقوده وابتعد ليشعل سيجارة في الجهة المقابلة من الطريق،لقد رأى هذه السيارة أكثر من مرة اليوم،هذا الرجل يتبعه بالتأكيد والسبب لا يبدو خفيا،هل استأجره أكرم مع زوجته، أم أن الأمر لا علاقة له بهما،حاول أن يتذكر أي عداوة تربطه بأحد الأشخاص فلم يسعفه عقله،هو على حد معرفته مسالم،يعمل كمحام لكنه ثري بما فيه الكفاية فالمهنة لمجرد القبول والواجهة الاجتماعية وهو لا يقبل بقضايا قد تجلب له المشاكل أو التي قد تأخذ كثيرا من وقته،لماذا فكر أن زوجته قد تخونه،زوجته بنت ناس وقد تزوجها عن حب ولم ير معها إلا كل سعادة رغم أنهما لم ينجبا،دار كل هذا برأسه وأكثر وتحسس المسدس في جانبه وهو يغادر ويلقي نظرة على الرجل الذي انتهى من سيجارته ووقف يدفع مقابل الوقود فاستقل هو سيارته وانطلق.
انطلق بسرعة متوسطة وهو يتأمل المرآة الأمامية حتى رأى السيارة تبرز على الطريق خلفه فزاد سرعته محافظا على المسافة بينهما،نظر إلى ساعته وكانت التاسعة مساءا،وعندما بلغ بقعة مظلمة من الطريق قلل من سرعته حتى اقتربت منه السيارة بالخلف ثم أدار سيارته لتعترض الطريق وغادرها مشهرا مسدسه متوجها إلى الرجل الذي اتسعت عيناه رعبا وهو يحدق به ويتوسل إليه ألا يؤذيه أو يؤذي ابنه.تطلع إلى المقعد الخلفي ليجد طفلا في الرابعة أو الخامسة ممدا عليه يفرك عينيه من أثر الاستيقاظ فتراجع بظهره حتى بلغ سيارته وقفز إلى مقعد القيادة وغادر مسرعا.
********
اقتربت الساعة من الحادية عشرة،مازال يجوب الشوارع بعد عودته إلى المدينة مرة أخرى،كان قد عرج على محل اللافتات مرة أخرى ليلق نظرة ثانية،الاحتفالات برأس السنة الجديدة في المقاهي والمولات والشوارع خلقت جوا حميميا أنساه كارثته،لابد أنها مزحة ثقيلة كان يعدها له أحد أصدقاؤه،مفاجأة جديرة بالهالوين وليس برأس السنة،ارتاح ذهنه لهذه الفكرة،رأى تلك الفتاة بجسد طويل فارع وبشعر يصل إلى خصرها تتحرك في إحدى الشوارع ،مال بسيارته إلى جانب الطريق وأوقفها ثم غادرها متوجها إليها، كان مظهره أنيقا بعد أن ضبط هندامه وربطة عنقه وارتدى سترته الهاريس تويد التي يبقيها بالسيارة دائما وقد استجمع كل لباقته وهو يقول لها:((أنا من الأسكندرية وابحث عن مكان للاحتفال الليلة هل تستطيعين أن تدلينني على واحد)) اتبع ذلك بابتسامته الساحرة التي تبرز أسنانه البيضاء الناصعة وأنفه الأنيق،تشككت الفتاة في أول الأمر لكنها تأملته فابتسمت وقالت:((بالتأكيد..هناك مكان قريب لحسن حظك فأنا متوجهة إليه.))ابتسم لها مرة أخرى وسار إلى جوارها.
((نستطيع أن نختصر الطريق عبر هذا الشارع،))وأشارت إلى شارع جانبي وتقدمت فتبعها،كان الشارع خال من المرة فمشي متأخرا عنها بخطوة وفي منتصفه ضربها بمسدسه على مؤخرة رأسها ففقدت الوعي ثم سحبها إلى زقاق جانبي. تركها أرضا وبدأ في خلع ملابسه قطعة بقطعة حتى أصبح عاريا ثم سقط أرضا.
*****
صفحة الحوادث بإحدى الصحف الرسمية:
عثر بأحد شوارع القاهرة على جثة لأحد الشباب بجوار إحدى الفتيات التي تلقت ضربة على رأسها فقدت على إثرها الوعي، وكانت جثة الشاب قد تمزقت تماما وتناثرت أشلاؤها قبل أن يقوم رجال البحث الجنائي بجمعها،وتم العثور على أوراق هويته وهو شاب يدعى أمير عدلي يعمل كمحام ، وبسؤال الفتاة تبين أن الشاب كان يرافقها إلى أحد الأماكن القريبة التي تقيم احتفالا برأس السنة،وقد عثر رجال الشرطة بسيارة المجني عليه والتي دلتهم عليها الفتاة على لوح من الرخام الأسود كتب عليه اسمه وتاريخ وفاته بنفس تاريخ الأمس مما جعل الشكوك تميل أكثر إلى أنها حادثة انتحار.
وقد قال أحد الشهود الذين يسكنون بالشارع محل الجريمة أنه كان قد أطل من نافذة ليشعل سيجارة وكانت الساعة قد بلغت الثانية عشر بالضبط ليجد شابا بالشارع يقف عاريا وقد بدأ ينشق جسده في منطقة الصدر، ورأي شيئا ما كالثعبان لكنه لا يملك أي معالم واضحة إلا بعض الزوائد الجلدية التي تتلوى على جانبيه في مادة لزجة كالمخاط قبل أن يتحرك ناحية الفتاة وينزلق إلى فمها،وبالتحقيق معه تبين أنه كان مخمورا وتم العثور على نسبة من الكحول في دمه وقد طلب المحقق عرضه على أحد الأطباء النفسيين.
محمود فؤاد