أنا

أنا

الخميس، 22 سبتمبر 2016

المدينة المشوهة:ثنائي الزهور(الحلقة الأولى)


هذه متتابعة جغرافية وقصصية اتخذت من مدينة المنصورة بطلها ومسرحاً لها وليست مذكرات شخصية للكاتب بأي حال من الأحوال..
********
ليس هناك أعظم من أن يكون لديك معلم كبير..وأن تكون تلميذه المخلص..المعلم الكبير سينقل لك كل ما جناه في هذه الحياة بحكمته وصبره..المعلم الكبيرسيحميك من شياطين الطريق ووحوشه..سيصرع الحيرة حتى وإن لم يجلب اليقين..سيقتل الغضب وإن لم يأت بالسعادة..سينقذك أيها التعس وينزع منك خوفك..سيعطيك مسحة الأمل حتى لا تضل سواء السبيل..لا يجب أن تشق طريقك وحدك في هذا العالم..فإن لم تجده..العالم الخبير القوي القادر على بث الطمأنينة في نفسك..إذا بحثت عن صورة الله في هذه الأرض فلم تجدها..فلم لا تبحث عنها في السماء فتجلبها إلينا؟!..تجلب لنا المعلم الذي نسينا ونسي أن يترك لنا صورته..تعالى وتنزه عن كل نسيان
********
((لقد فاض بك الحب على حين أن من ساقوك إلى هنا لم يذوقوا من الحب إلا النذر اليسير))
*من حديث عيسى إلى ساقطة بيت المقدس
*******
المنصورة التي أعرفها,المدينة متوسطة الحجم التي يحمل جسدها دماً فاسداً وملوثاً ويتمدد يوماً بعد يوم يسري في شريطين متوازيين كالأورطى والوريد الأجوف السفلي يتعامدان على فرع دمياط من النيل قبل أن ينكسرا له ليسيرا بموازاته إذا دخلت المدينة من جهة سندوب يتدلى منهما شرائط تبدو كأوعية دموية رئيسية  تفضي إلى أحيائها التي تحتوي أوعية أصغر.. هناك مدخلين رئيسيين لمدينة المنصورة أحدهما من المدينة الصغيرة المتاخمة لها سندوب يفصل بينهما شريط القطار الذي يربط المنصورة بالمطرية قبل أن ينحني ليشق المدينة الأكبر التي تقع شمال هذا الخط ,والآخر من طريق مصر إسكندرية الزراعي الذي ينشق عند نقاط التقائه بالمدينة إلى مداخل عدة منها حي الأشجار وامتداد شارع عبد السلام عارف وامتداد شارع جيهان ولكن أبرزها هو الموازي لسور الجامعة قبل أن تصعد كوبري الجامعة المفضي إلى الطريق الدولي الساحلي أو إذا كنت نازلا من كوبري الجامعة قادماً من الطرق الواقعة شمال المدينة..بينما أنت متجه إلى المدينة قبل أن تدخل إليها على الطرق الخارجية المحيطة بها يطالعك حزام أخضر من الأراض الزراعية تزحف المدينة كمسخ غير محدد المعالم تفوح منه عفونة قديمة لتلتهمه في كل لحظة..يذكرني هذا الوصف الخارجي للمدينة بالوحشة التي تصاحبني دائماً على الطرق السريعة والتي ربما السبب فيها هو غياب المعالم الواضحة وخصوصية المكان وحتمية أن تسلك دائما طرقاً معينة في وسط اللامكان لا تستطيع الفرار.
المتجه إلى المنصورة من الطريق التقليدي لها عبر سندوب بعد أن يصعد إحدى الميكرو أو الميني باصات ويجلس بجوار النافذة محتملاً الرطوبة ورائحة العرق وربما البول والقيء كذلك بعد أن يضع شيئاً ما يسد به أذنه كسماعات الهاتف وتتحرك الحافلة لتشق الشريط الشرقي الذي يصبح شمالياً عند التقائه بالنيل سيجد على يمينه مبنى ضخم غير موح بالثقة ربما بسبب الطابع البيروقراطي له والتصميم الحكومي المتظاهر دائماً بتوفير النفقات على حساب جمال المعمار منغلق على أسراره لا تستطيع أن تعرف ما يدور بداخله مغطى بسواد العادم والغبار مكتوب عليه مستشفى التأمين الصحي بالمنصورة يدخل ويخرج منه أناس يرتدون الجلابيب والملابس الرخيصة بعضهم بذقون طويلة تبدو كأنها مغطاة بالمخاط اللزج أسفل وجوه غبية كالحة ونساء يرتدين غطاءاً للرأس فيبدون كمرضى السرطان وآخرون يرتدون النقاب ويتدلى من نوافذه مناظر كملابس داخلية متسخة تتدلى على حبل أو شخص يرتدي ملابس منزلية بذقن غير حليقة يقف مع كيس من اللب أو يتدلى من فمه سيجارة ,وسيجد على يساره جداراً تذكارياً مغطى بالغبار ولطخات من الطين يحمل سورة الفاتحة والآيات الاولى من سورة البقرة كما اتفق على تصويرهما في بداية المصحف يليها تمثال لنهضة مصر ثم صورة من غرفة العمليات للقوات المسلحة في حرب أكتوبر كانت تحمل وجه حسني مبارك يشير إلى خريطة أمام السادات قبل أن يتم تغييرها بعد 25 يناير إلى شخصية عسكرية ما لا تستطيع تمييزها ثم مشاهد من معركة المنصورة ضد الحملة الصليبية ومركب فرعوني تقليدي يحمل سنابل القمح يجلس عليه العمال يجدفون ثم حائط يحمل وجوه متعددة للشخصيات البارزة في تاريخ محافظة الدقهلية والذي يحمل شخصية دينية متعصبة ومتطرفة بجوار شخصيات كأم كلثوم وأحمد لطفي السيد ود.محمد غنيم وشخصيات أخرى لا تعرف من هي أصلا,يقع هذا الجدار في مقابل محطة بنزين تابعة للجيش فتشعر به منسجماً مع الطبيعة العسكرية له بشكل ما,ينساب الطريق محاطا على اليمين بجزر من المسطحات الخضراء ثم على اليمين وعلى اليسار بعمائر مرتفعة من الطوب الأحمر القبيح تزحف على أطراف المدينة محملة بالعائدين من الخليج يفضي إلى مجمع المحاكم العملاق على اليمين واستاد المنصورة على الجهة المقابلة من الطريق..يقام في هذه المنطقة سوقاً للسيارات المستعملة الأربعاء من كل أسبوع على الجهة الاخرى من الجزر الخضراء بالإضافة إلى مجموعة من الأكشاك الخشبية والنصبات التي تستطيع أن تحصل منها على كوباً ساخنا من الشاي أو القهوة,حمص الشام.أو ورقتين بفرة تحملهما إلى إحدى المظلات وسط الأشجار القريبة لتحصل لنفسك على سيجارة تعدّل من مزاجك .
في هذا الشارع مشيت يوماً ما مع الفتاة الوحيدة التي شعرت معها بأحاسيس حقيقية وشكلت مفاهيمي وانطباعاتي عن النساء,..في كل فتاة عرفتها بعدها وانجذبت إليها وجدت جزءاّ منها و ظللت دوماً أفتقد الكل..كنت في سنتي الجامعية الأولى قد ذهبت إلى صديق لي يسكن بشارع الاستاد لأحصل على بعض الاوراق والمذكرات ثم جلسنا سويا نحاول الاستذكار وحشو أي معلومات في أدمغتنا مع شعور بأنه لا جدوى,في ذلك اليوم الشتوي الممطر المثقلة سماؤه بغيوم سوداء جلسنا في مقابل بعضنا إلى منضدة لها قرص زجاجي على قاعدة معدنية وقد أشعلنا ثلاث شمعات في منتصف القرص بعد أن انقطع التيار الكهربي,يتراقص ضوء الشموع على وجه صديقي ويبدو أنفه أحمراّ بشدة وهو يقرأ في كتاب علم الوظائف الحيوية-الحجم الأول,أشعر بالرعب الذي نتشاركه تجاه هذه الكتب والمذكرات التي ترقد أمامنا تنتظر أكثر من مجرد الإطلاع عليها,ارتجف من البرودة ومن القادم ولكنني احمل املاً بأنني قد أراها اليوم,قد تسمح لي هي بذلك..أخبرتها أنني أحتاج أن اتحدث معها في أمر مهم,لم توافق,كنت أريد ان أراها وأشعر بوجودها قربي وكان هذا أمراً مهماً لي,لماذا لا تدرك هذا,لم تتصل فاتصلت أنا, أخبرتني بأنها لا تستطيع مقابلتي,ألححت عليها فوافقت وأخبرتني أنها ستغادر سريعاً,أنهيت المكالمة وانا على أمل أن تبقى أكثر,أخبرت صديقي أنني سأرحل ثم غادرت مسرعاً,لا أصدق حتى أنها ستأتي حتى أراها تنزل من التاكسي أمام الاستاد وقد توقف المطر وبقيت الغيوم’,تبتسم وتتجه ناحيتي,أشعر بدفء غريب ينتشر في داخلي وهي تقترب,أشعر بالحياة تقبل عليّ,أتخيل الحياة دونها وتهبط عليّ ظلمة مفاجئة فأطرد هذا الخاطر في الحال,تسألني عن حالي وهي تنظر لي بتلك النظرات الجانبية التي تعرف جيداً كيف تلقيها مع تلك الابتسامة التي تحمل في إحدى أوجهها سخرية وفي وجه آخر شفقة وكأنها تقول ((ياللمسكين)),أراها فأنسى الوظائف الحيوية وما ينتظرني من لحظات سوداء أنا الذي ينتظرني أول اختبار نهائي لي في الكلية بعد أيام ولا أعرف حتى كيف أجلس لاستذكر أي شيء,وددت أن أنسى هذا ولو لساعات قليلة,تقف بجواري ولكنها في عالم آخر,تخبرني أنها سترحل الآن وانها متأخرة فأقول لها أن تبقى قليلا,أشير إليها بأن نتمشى قليلا حتى تجد ما تركبه,تسير إلى جواري وقد خلت الشوارع من حولنا بتأثير المطر ثم نعبر الطريق إلى الجهة المقابلة,نعبر بين أتوبيسين عملاقين فأشير بيدي لها أن تتقدمني تبتسم وتبدأ في السير أمامي وجسدها الجميل يتمايل بتلك الطريقة العشوائية البدائية الغير متكلفة,أسمع صوت نبضي في أذني وأشعر بالدم يندفع إلى رأسي حاملاً الدفء وقد نسيت تماما الواقع الذي ينتظرني,يبدأ المطر مرة أخرى فنسير مسرعين ونحتمى في مدخل سينما نانسي التي تقع خلف المجمع,أتكلم وأتكلم محاولاً ان أحرك مشاعرها,تخبرني أن قميصي يعجبها,تحرك إصبعها تتحسسه مسرعة ثم تعيد يدها وهي تنظر لي مرة أخرى بتلك الطريقة التي أحبها وتبتسم فتشعل بداخلي الحيرة,في هذه اللحظة أخبرتها مرة أخرى بمشاعري تجاهها فلم ترد وإن احتفظت بابتسامتها المحيرة تلك ونهضت لتخبرني أنها يجب ان ترحل,أطلب منها برجاء أن تبقى قليلاً ولكنها تصر على الرحيل,أعيد الرجاء ولكنها ترفض وتتحرك,أسير إلى جوارها,أتحدث وأتحدث وهي ترد بجمل قصيرة وسريعة,نقف في انتظار حافلة فلا تأتي,تقول لي أنها تشعر بالذنب وان هذا لا يرضي الله فأطلب منها أن نسير سوياً باتجاه محطة الحافلات وفي المقابل سأغني لها وأنظر إليها مستعطفاً,تقرقر كالأطفال وتتقدم,نسير على الرصيف المجاور للجزر الخضراء في نهر الطريق باتجاه المدينة الاصغر,أغني لها بالفرنسية مقطوعة ثنائي الزهور,تسألني باستغراب عن معرفتي بالفرنسية فأهز رأسي بسعادة,أقول لها معنى الكلمات:

تحت القبة السميكة
حيث الياسمين الأبيض
يتجمع على الوردة
في نهر الزهور
يضحك في الصباح
تعال,دعنا ننزل
سوياً

تبتسم في خجل وتتحسس خصلة الشعر المتدلية على جبهتها من حجابها,أفقد أنا شعوري بكل ما حولي,تخبرني أنها تشعر بدوار خفيف وترغب في الجلوس فنجلس إلى مظلة قريبة,تقول لي:أكمل

بلطف,دعنا ننزلق
حول فيضانه الساحر
دعنا نهرب معه
التيار
بيد واحدة غير مهتمة دعنا
نصل للضفة
تعال,دعنا نجد الضفة
حيث ينام المصدر
والطيور,الطيور تغني
تحت القبة السميكة
تحت الياسمين الأبيض
دعنا ننزل سوياً

ثم رددت هذا المقطع في رأسي وأنا أنظر إليها صامتاً ساهما:

ولكن,لا أعرف لماذا
خوف مفاجيء
يجرني للخلف
عندما يذهب أبي وحيدأً
إلى مدينتهم الملعونة
أنا ارتجف,ارتجف من الخوف

تمد يدها إلي وتمررها على مقدمة شعري ثم وجهي وأنا لا أتحرك,تنهض وتخبرني أنها تأخرت كثيراً تشير إلى تاكسي يقترب وتنظر لي بحنان وهي تفتح الباب,تستقر في المقعد الخلفي فأرى ظلالا من وجهها وقد بدأ الظلام في الهبوط,أضع يداي في جيبي معطفي واضغطهما بقوة على جسدي والسيارة تبتعد.
ولم اسمع منها أو عنها مرة أخرى.



الثلاثاء، 20 سبتمبر 2016

رأس البر (قصة)



N.B:هذه القصة كتبتها منذ خمس سنوات مضت

دكتور رمزى البسيونى طبيب الأسنان الذى يعيش وحيدا فى بيته القديم المطل على منطقة السوق المناوءة للنيل بمدينة رأس البر التى تمتزج فيها مياه النيل بالبحر المتوسط..أخذت اتأمله فى بادىء الأمر وهو غارق فى مقعده وقدماه على مقعد مقابل ,يغطى بالجريدة وجهه و تخيلته مجرد عجوز على المعاش يقرأ الجريدة ويرتاح قليلاً وقد اقترب وقت القيلولة,فيما بعد تعجبت القدر الذى رتب أن يوقف أخى السيارة بالذات أمام هذا البيت الذى يرقد كالسلحفاة العجوز وسط الاستراحات والفيلات حديثة الطابع وينزل ليبحث عن صديق له يعمل فى كافتيريا قريبة,نزل أولاد اخى من السيارة وأخذوا فى إحداث جلبة استيقظ على إثرها العجوز ووقف مستندا إلى سور شرفته التى تقع فى الطابق الأرضى من منزله ذى الطابقين وارتسمت على وجهه الممتلىء بالتجاعيد المتداخلة والمتقاطعة والصلبة كأنها رسمت على قالب من الصلصال ابتسامة اخذت تتشكل ببطأ شعرت معه أن الخطوة التالية هى أن يتهشم وجهه ويسقط على الارض..أخذ بعدها يلوح لهم بيده واتسعت ابتسامته أكثر وأكثر,أدرت بصرى فى البيت ومحيطه بطابعه القديم المختلف عما حوله فواجهتنى لافتة كتب عليها..د.رمزى البسيونى  أخصائى جراحة الفم والاسنان بالمستشفى العام,اقتربت منه وسألته:(حضرتك دكتور أسنان مش كدا؟)..فرد:(أيوا يافندم..أأمرنى) ..عندما اقتربت منه شعرت بسنه الكبير فعلا الذى يقارب الثمانين وبيجامته المتهدلة على جسده النحيف,بيجامة كانت أنيقة يوما ما لوثت اطرافها بقع من عصير البرتقال كتلك البقع التى تلوث ما حول فمه ويطل من تحتها بول أوفر قديم خاط هو اطرافه بخيط ابيض يبدو واضحا من لون البول أوفر الداكن وبطريقة غير احترافية بالمرة ونظارته الشمسية التى ترفع عدساتها لأعلى ليتبدى من تحتها عدسات اخرى للقراءة..
-((أنا طالب فى كلية الطب))
-((طب القاهرة؟))
-((لا طب المنصورة))
-((تشرفنا..أنا كنت وكيل وزارة الصحة فى دمياط هنا ومسكت كمان مدير المستشفى العام بس أنا دلوقت بقيت على المعاش.. خلاص..الجماعة دول أهلك مش كدا؟..ما تيجوا تتفضلوا؟))
-((أيوا أهلى..الله يخليك يا دكتور شكرا..إحنا لسه واصلين..أكيد هعدى أقعد مع حضرتك شوية لو تسمحلى))
-((أكيد لازم تيجى..هستناك فى أى وقت لو فاضى بالليل ابقى تعالى نقعد شوية..زمان كان الأطباء كلهم بييجوا يقعدوا عندى هنا))
فى هذه اللحظة عاد أخى ومعه صديقه فاستأذنت منه..فقال لى بعينيه التى حال لونها قبل لسانه:((هستناك))
ابتسمت له ابتسامة مطمئنة وقلت:((وأكيد))
ثم صافحته وعدت إلى السيارة لتسألنى والدتى:((مين دا؟))
-((دا دكتور أسنان على فكرة..هبقى انزل اقعد معاه شوية بالليل))
-((وهو إحنا نعرفه..إنتا أى حد كدا تروح تقعد معاه..مبتسمعش عن المشاكل اللي بتحصل..مانتاش رايح فى حتة بالليل على فكرة هتفضل معانا))..قلت لنفسي..(أي كلام)
-((ربنا يسهل يا ماما))
************************************************************
بعد أن استقر بنا الحال في الشقة المطلة على ذلك الممر الطويل الذي يشق طريقه لمسافة يسيرة في البحر و التي اشتراها والدي قبل سنوات قليلة من وفاته,بدأت أمي وزوجة أخي في التنفيض والتنظيف بينما ذهب أخي ليجلب احتياجاتنا خلال إقامتنا هنا وأخذ الصغار معه,فتحت باب الشرفة بصعوبة ثم حملت مقعدا ورواية وجلست أقرأ واتأمل تلك الأجساد الممدة أسفل الشمسيات تتظاهر بالسعادة حتى ينتهوا جميعا ونتوجه كلنا إلى الشاطيء,الهواء يحمل الدفء والبرودة يلطم وجهي ويعطيني شعورا بالانتعاش فأغوص أكثر فى المقعد وتسري في جسدي قشعريرة الانتشاء..تذكرت أبي لما غاب عنا لأول مرة عندما سافر مع ذلك الوفد الاقتصادي التابع للبنك الذي كان يعمل به..في بداية فترة الغياب لا تشعر بأن شيء قد تغير خصوصا مع طول العزلة في غرفتك إما للدراسة وإما للقراءة والتأمل..مع الوقت تعتاد هذا الغياب وتظل هناك ذكرى بأنه سيعود بعد فترة ما ثم تنساها بعد ذلك حتى يجيء يوم العودة..ولكن الامر بدأ عندما عاد فعلا..الشعور فعلا بأنك كنت مكشوفا إلى حد ما في هذا العالم دون هذا الرجل الذي يعطي مجرد وجوده في المنزل الشعور براحة ما..تفكر كيف أنك على الرغم من طول فترات انعزالك كنت تعشق هذه اللحظة التي كان يدخل فيها عليك غرفتك ليتكلم معك أو ليسألك عن أمر ما فتظل تتحدث معه بعصبية ولا تنسى في النهاية أن تقول له بأن يطرق الباب في المرة القادمة..((والنبي يا بابا احترم إني ليا خصوصيات)) ولكنه يكررها ويتكرر تذمرك..عندما تستيقظ عند الفجر لتجد صوته الخافت يردد الأدعية في صالة المنزل استعدادا للنزول للصلاة وكيف كنت تستيقظ في غيابه في ذات الوقت فيلطمك الصمت المطبق فتعاود النوم وفي أحشائك شعور ما لا تدري طبيعته..شعوري بالتقدير الكبير الذي يحمله لي بداخله وإن بدا عكس ذلك في بعض الأحيان وكيف كنت أتقبل كل هذا التناقض فى التعامل بروح الكل الذي لا يتجزأ..تبدأ في الشعور فعلا بأنك تحب هذا الرجل وأن وجوده شيء أساسي وحقيقي لكي تستمر هذه الحياة....كل هذا يراودك بعد العودة لا عند الرحيل..لهذا لم أعد استغرب غياب أبي وكيف لم أذرف دمعة واحدة يوم وفاته..الرحيل يختلف كل الاختلاف عن العودة..ومنذ زمن كنت قد اعتدت الرحيل..لم يكن يعرف كيف يعبر عن محبته لي..نجلس صامتين فيخيل لي انه يتأملني بحب فالتفت إليه لأجد لا مبالاة تامة..لم يجلب لي يوماً شيئا اتذكره وأقول هذا من أبي..لم نخرج معاً أو نسافر سوياً ولا توجد صورة واحدة تجمعنا..كل ما أتذكره شبح يدخل إلى غرفتي كل ليلة ليحكم الغطاء حولي ثم يطبع قبلة على وجهي وانا على حافة الحلم,هذا فقط ما يؤكد لي ان وجود أبي كان حقيقيا,بأنه كان لي يوما ما جذوراً في هذا العالم ..عاد أخي وانتهت أمي وزوجته من كل شيء وبدأ اخي في القاء الدعابات فأشاركه إياها وأنا ارسم على وجهي ابتسامتي الزائفة المعتادة.
************************************************************
كانت تقول..نعم,أنا أخاف على سمعتي ومن المجتمع والأهل ولكن ما أشعر به في هذه اللحظة هو أنني سعيدة....كنت أشعر بصدق هذا الكلام فعلا عندما قالته في لقاء بيننا,نعم هي أقل من طموحاتي عقليا ونفسيا وحتى على مستوى العائلة وغيرها,ولكن لا أدري لماذا أتذكرها وأشعر بهذا القدر من اللهفة على رؤياها بقامتها المنطلقة المثمرة ودفء جسدها حين تلتصق بي في جلستها,استجاباتها السريعة لي بمجرد التفكير في قول شيء ما وشعوري أنها كانت تنتظر هذه الفرصة..لا أعتقد أنه حب وأخاف ان يكون اشتهاء..بل إنه ليس حبا..ربما هي الرغبة في أن يكون هذا الجسد الفارع البكر الذي تحاول أن تخفي تفاصيله بارتدائها (تونيك)طويل واسع قليلا ملكك أنت..ربما أنت تريد أن تتلقفها وهي ما زالت بهذه البراءة والطهر وقبل أن تتلوث..خجلها من الحديث إليّ في باديء الأمر الذي سرعان ما زال بعد أن بدأت أنا الحديث..اهتمامها الزائد بكلماتي وتقديسها لها وكأنني أنطق بالحكمة مقطرة..ربما لبراءتها وخلوها إلى حد ما من أقنعة الزيف التي سئمتها في كل من حولي.واحتفاظها على الرغم من تظاهرها بالعكس بطريقتها الريفية التي أحبها..أراها منذ أن كانت طفلة أمام عينيّ بجسدها الذي فار وانسكب مبكرا..شعور بالاهتمام بي كانت تحاول إخفائه بطريقتها البكر لكني تلقفته رغم قلة رؤياي لها..لا أريد أن أنسى كذلك ما شعرت به حين اقتربت بفمي من أذنها لكي أخبرها بما لم تسمعه..لم أتلقى أي رد فعل يدل على نفورها..بالعكس..شعرت بها تناديني..تذكرت كذلك كيف خفت..خفت من ذلك التحول الطاريء عليّ..لا أحب الدخول في علاقات أعرف نهايتها وتكون المشكلة مشكلتي أنا..أنا مثل البحر الذي يرقد أمامي الآن يبدو هادئا تماما ولكن الأمواج تستعر في أعماقه استعدادا لأن تقلب كل شيء رأسا على عقب..أحيانا تنتابني تلك الفكرة..ألا يكفيها ما قدمته لها من شعور بتقدير لذاتها بسبب وجودي في حياتها..يدور السؤال في ذهني..هل تفكر هكذا حقا..والإجابة المخيفة أنه نعم..طريقة حسمها الأمور بسرعة وسذاجة لا تناسبني..شعورها بالتضاؤل أمامي وحسابها لكل كلمة أنطق بها في حقها..شكها..قلقها..كل هذا لا أستسيغه ولا أحبه ولكني أتفهمه لا أفهمه..ربما كنت انوي تشكيلها كما أحب..ربما أردت أن أضع بها حدودا لعالمي الذي يتمدد دون سيطرة مني..سمعت أمي تكلمني: ((تشرب شاي ولا قهوة))..كانت قد أوقفت ذلك الفتى الصغير فى التاسعة من عمره تقريبا يرتدي طاقية تخفي وجهه بالكامل وهو ينحني ليصب الشاي فى أكواب بلاستيكية عندما انسدلت تلك الضفيرة البنية من أسفل الطاقية ورفع أجمل وجه رأيته في عمري الغير مديد..كانت فتاة..فتاة بكل ما يعنيه هذا من معاني لي..العيون الواسعة التي غطى لونها البني المذهب على معظم بياضها,تنسدل عليها رموش ليست بالطويلة ولا القصيرة لكنها ساحرة..البشرة الناعمة الخمرية التي غطاها الفقر بالأنيميا والشحوب ولكنها ظلت رغم هذا تبرق ببريق خافت كاللؤلؤ..الملابس الرثة التي تغطي الجسد الطفولي النحيف بالفقر الرشيق من العناء..ويدها التي تحمل ترمس الماء الساخن..يد لوحتها الشمس وملح البحر ولكنها ظلت شفافة نظيفة وكأنك لو لمستها لانكسرت..لماذا لم نولد لنا نفس العمر في نفس المكان يا فتاة..ربما لاختلف الأمر وقتها..كانت تنظر لي منتظرة إجابة مني فسألتها : ((اسمك إيه؟))
فردت: ((أميرة يا أستاذ))
*****
في المساء مشينا إلى منطقة اللسان حيث يعانق النيل البحر المتوسط برفق أحيانا وبقوة أحيانا أخرى..كانت الساعة تقترب من العاشرة مساءا وشعور كالمخدر تماما يسري في رأسي..تشاجر أخي مع زوجته وتركنا ورحل كالعادة..حاولت معه ومع زوجته بكل الطرق دون فائدة..السبب؟!...لن تصدقني إذا قلت لك أنه ارتدائها (إيشارب)أحمر..هو يحبها جدا ولكن أشعر دوما بعدم ثقته بها,حديثه الدائم عن النساء اللائي يعرفهن وأنه يرغب في الزواج من أخرى يعطيك انطباعا بعدم الثقة بالنفس,حدث مرة أن ارتدت النقاب ارضاءا له دون أن يطلب ذلك فشعرت به منتشيا منتعشا ولكنها تركته بعد فترة فاستشاط غضبا وبقيت عند أهلها مدة شهر تقريبا,هي كذلك لا تثق به,ربما هو فعلا السبب في كل هذا, فأخي وسيم ولا أحد ينكر هذا,وهو كذلك لا يكف عن ملاطفة النساء..زوجته كذلك شهية ولا تفهم كلامي دون محله.. أنا فقط أوضح الصورة..المهم أن الأمسية بات محكوما عليها بالفشل والضحية هم الأطفال الذين اشتكت إحداهم إلي قائلة :((هو بابا كدا دايما يا عمو يبوظ علينا أي خروجة)),مما يعطيك انطباعا عن مدى هيمنة الأم عليهم,أو ربما هي عاطفتها الصادقة,ذهبت ابحث عنه في كل مكان فلم أجده,هكذا تناولنا العشاء في منطقة السوق ثم توجهنا للسان.
تركتهم وجلست على إحدى الصخور المواجهة للبحر,بعد قليل نظرت إليهم فوجدت أخي قد عاد وأخذ يداعب الصغار فنظرت إلى البحر وأنا اجتر الذكريات اجترارا,ذكريات أعادتها إلي النغمات التي تتسرب إلى أذني عبر السماعات ,أتعجب أحيانا من مدى ارتباط الأغاني بذكريات معينة,يمر الأمر بالكامل أمام عينيك بينما الكلمات والنغمات تداعب مراكز الحنين في المخ ..تشعر بتلك الرعشة الخفيفة تجتاح جسدك..في أحيان أخرى كانت الأغاني والألحان بالنسبة لي كأنها صنعت من أجل قصة ما بالذات..كأنها نبتت هناك في مخيلة مؤلف مبدع وملحن بارع في انتظار موقف ما أن يحدث..أو مؤلف ما أن يكتب روحها في رواية..أحيانا كان يحدث العكس..أمسك بنفسي أحيانا أفكر بنفس طريقة أخي..ربما هذا هو سبب مشاكلي معها..في البداية كانت لا تعني لي أكثر من مجرد تجربة مثيرة كنت أراها عادية تماما حتى عندما تعرفت عليها بشكل عفوي تماما لم تكن أكثر من مجرد صديقة..أحببتها..نعم..تستطيع أن تقول هذا..بل أن تراهن عليه..ما حدث بعد ذلك ربما يؤيد كلامك..رباه ما الذي جاء بهذه النغمات التي تنساب إلى أذني في هذه اللحظة بالذات!..الصوت الفيروزي يصدح قائلا بأن( الهوا) قد نسم علينا من مفرق الوادي..ربما لم أكن أشبه أخي رغم كل هذا..جاء الأمر بشكل سريع لم أكن أتوقعه عندما قلت لها عبر رسالة قصيرة على هاتفها المحمول..أحبك..وقالتها كذلك..حتى هذه اللحظة لم أكن متأكدا من هذا,ربما قلتها لأنها كانت المتاحة وقتها..عندما ابتعدت أيقنت بالحقيقة..ربما هي أعطتني لمسة دفء في بحر صاخب متلاطم أو أنها قد جاءت في الوقت المناسب لها وربما في ظروف أخرى ما كنت لالتفت لها,ولكن منذ متى والحب لم يكن نتاج مجموعة من الأحوال والظروف النفسية والقدرية..تتجمع وتتشابك وتتشعب حتى يصبح من الصعب عليك أن تغادر بسهولة..هنا فقط كان الرحيل صعبا ومازال..عندها تتوقف حياتك تماما وأنت على أمل..تراقبها من بعيد وأنت على أمل..تدرك الحقيقة..حقيقة أنك كنت أنت التجربة المثيرة بالنسبة لها..وبأنك قد أصبحت مملا الآن..ولكنك تظل على أمل..تقدم التنازل تلو الآخر وأنت على امل..تفقد روحك ذاتها والأمل لم يخبو بعد..أهز رأسي بشدة محاولا أن أنفض منها كل هذه الأفكار فلا أصيب إلا بعد الدوار..جاءت وجلست إلى جواري..كنت أعشق عينيها ونظراتها الخجولة لي..ضممتها بذراعي فالتصقت بي وأراحت رأسها على كتفي وأنفاسها الدافئة تتردد على أناملي وعطر خفيف من شعرها الثائر الذي أحبه يتهادي بين خياشيمي فيعيد إلي الروح.
((يلا يا عمو)),كانت هذه ابنة أخي ..طفلة رائعة..دقيقة فكل شيء..الأنامل..الأنف..الفم..عدا عينيها الواسعتين..كانت كالملائكة فلا ينقصها سوى هالة حول رأسها..قلت لها:((يلا يا حبيبتي!)).
**************
الحياة كذبة كبيرة فلن يضيرها بعض الكذب العميق المغزى..((ماما هشتري قهوة وجاي..))..كانت هذه في طريق عودتنا للمنزل..((متتأخرش))..توجهت بعدها إلى منزل د.رمزي,تذكرني بصعوبة وكان لم يغادر مكانه منذ الصباح!,غاب بالداخل قليلا ثم عاد بكوب من عصير البرتقال لم أمسه أبدا..هو حتى نسي أنه كان قد جلبه لي وأتى عليه بالكامل..قال لي:
-((تعرف إني اتسرقت من كام يوم..أنا فضلت قاعد كدا وهما خدوا كل اللي هما عاوزينه وكأني مش موجود أصلا..من فترة والناس بطلت تعتبرني موجود..))
-((إنما حضرتك مين بياخد باله منك أنا ملاحظ إنك قاعد هنا من الصبح ؟!))
-((الواحد لما بيعيش لوحده فترة طويلة بيحس إن الناس ملهمش قيمة أو فايدة غير إنهم يزعجوك أو يسرقوك قولتلي إنتا في طب المنصورة؟..أنا كنت في طب القاهرة بس كان ليا أصدقاء عندكوا))
-((المنصورة بقت زحمة..بس تقريبا لسا زي ما هي..))
-((زمان كان فيه قهوة على النيل كنا بنيجي من القاهرة مخصوص نقعد عليها..المنصورة في الشتا بعد المطر كانت جميلة..مدينة صغيرة نضيفة ومترتبة..وفي الخريف كانت المدينة بتكون ..بتكون..)) وأخذ يحاول التعبير بيده ثم قال:
((فيها شيء حزين شفاف بهيج وحزين..تحس كأن ذكرياتك بتدور طايرة في الجو وإنتا بتحاول تمسكها)) ثم تابع::((تعالى هفرجك على البيت))
-((لو حضرتك تسمح))..ثم تبعته إلى الداخل,كان البيت عتيقا فعلا كصاحبه..ربما لو فتحت المعجم لوجدت صورته بجوار كلمة عتيق!..الأثاث قديم تغطيه طبقات وطبقات من الأتربة ولكنه فخم جدا تحلق في وسط الصالة ثريا فخمة جدا قد تجد شبيهتها في قصر الجوهرة ! سقف مرتفع ونوافذ ضخمة والحوائط مغطاة بورق حائط موصوم برؤوس وعل جبلي تضاهي الثريا في فخامتها,في أحد الأركان تنتصب مرآة بجوارها مشجب معلق عليه معطف للمطر وشمسية..وتحف ذات طابع إغريقي وأخرى من الشرق الأدنى تتناثر هنا وهناك والعناكب تمرح بينها ولوحات ربما تعود إلى عصر النهضة!,ثم اقتادني إلى ردهة تتناثر على جانبيها الغرف وتقود إلى صالة أخرى تتناثر فيها المقاعد وجهاز تليفزيون عتيق يعود إلى ستينيات القرن الماضي يتوسط مكتبة ضخمة تضم المئات من الكتب..((أنا كنت بحب القراءة جدا خصوصا الفلسفة وليا مؤلفين تلاتة فيها..كانت مراتي بتشتكي مني لكل الناس بسبب إني يا إما في العيادة يا إما قاعد أقرا ومحبوس في مكتبي..الأولاد مكنتش بقعد معاهم تقريبا إلا بالصدفة..أنا كان عندي عيادة مشهورة في ميدان محافظة دمياط))
-((وهما فين دلوقت حضرتك؟))
-((ماتوا..سواق العربية النقل عمل اللي يقدر عليه عشان يمنع الحادثة الحقيقة بس أنا مكنتش مركز..))
-((أنا آسف..))..هنا اقترب مني والشرار يكاد يطق من عينيه وزعق في:((مفيش حاجة في الدنيا اسمها آسف..هي مقدمات ونتايج..الدنيا نفسها متستحقش دا..عاوز تكون عارف إنك كدا كدا هتموت في حادثة في كرسيك هتموت..اتأسفت وأنا قبلت أو لأ هتموت..ما القيمة إذا..عاوز الحقيقة.. الحقيقة أنا اللي قتلتهم))..تعجبت جدا من طريقة تفكيره والشكل الذي احتد به علي ولكني شعرت بلذة ما فيما يقوله أخبرني بعدها أنه لا يؤمن بشيء على وجه التحديد عدا انعدام القيمة وأنه قد يبدأ في الإيمان بشيء إذا دله أحد على طريقة للخلود ثم وقف امام المكتبة وانتقى كتابا غريب الشكل تناثرت فيه رموز عبرانية كنت قد رأيت مثيلا لها من قبل على أحد مواقع الإنترنت أخذ يقلب فيه وهو يقول:((أنا عملت حاجات رهيبة تكفي لحرقي في ميدان عام بعد تقطيع جسمي حيا ورشه بالبهارات..حاجات أنا نفسي بفتكرها فأتقزز ومبعرفش أنام)) وحمل الكتاب وقال لي:((تعالى..)) وتوجه إلى السلم الذي يقود إلى الطابق العلوي تبعته وقد انتابني التوتر بأكملي من هذا الرجل الغريب فعلا وتساءلت عما يعنيه حقا من كلامه,الطابق الثاني يتألف من أربعة غرف على الجانبين توجه إلى الثانية على الشمال ثم دخلها,جريت لألحق به ودخلت إلى الحجرة الخاوية تماما إلا من قفص..((دكتور رمزي..))..((....))...((دكتور رمزي إنتا فين؟))..اقتربت من القفص لأجد أرضيته الملطخة بالدماء..فأجفلت وأنا اتراجع بظهري لأرتطم بالباب,ثم اخذت أصيح باسمه دون أي مجيب,نزلت للطابق السفلي وكررت النداء دون مجيب,خرجت لأحصل على أي مساعدة فوجدت محل بقالة قريب يستعد صاحبه للإغلاق في هذه الساعة المتأخرة,طلبت منه أن يأتي معي لمساعدة د.رمزي.
-((دكتور رمزي مين يا أستاذ؟))
-((دكتور رمزي اللي بيته هناك..))
((دكتور رمزي مات من 20 سنة يا أستاذ..))
-((!!!!!!!))
-((تلاقيه واحد لا مؤاخذة بيشتغلك أو حاجة..أنا هنا من 40 سنة..كان راجل محترم مش عارف ايه اللي جراله..اتجن..عذب مراته وعياله ورماهم لديب كان حاطه في قفص بعد ما جوّعه أسبوع كامل وبعدها حبس نفسه معاه..ديب يا أستاذ اللهم احفظنا !))
نظر لي بعيون متسعة ووجه ملتاع..استمر في ذلك لثوان, ثم انطلق في ضحك هستيري.

الأربعاء، 11 مايو 2016

الثريا (قصة)..الجزءان


(1)
لحظة من السعادة الباهرة,الليل يبتلع أشعة الشمس الأخيرة بهدوء ونسمة لطيفة من الهواء البارد برائحة النعناع والقرنفل والتربة الرطبة التي تم تقليبها في حديقة للتو تمس وجهها الذي يموج بدفء خافت كخزف أصلي تحت شمس خريفية.
تتسرب الظلمة بهدوء عبر الشرفة والصمت يغمر المكان وتبدأ الحمرة الخفيفة للسماء في الهروب من بين يديها,تحاول دائما أن تحدد تلك اللحظة الفاصلة التي يعلن فيها الظلام انتصاره ولكن يبدو أن هذا مستحيل.
أعرف أنني انتظرت في طابور 
حتى فكرتي أن لديك الوقت
لقضاء أمسية معي
تنهض من مكانها لتأخذ حماما منعشا يوقظ حواسها,يساعدها الماء دوما في تهدئة أعصابها,تغمض عينيها وتشحذ حواسها لتمتزج بصوت الماء االذي ينساب بنعومة على جسدها ليمسد عضلاتها بلطف,تنظر إلى جسدها بإعجاب وتتحسس كل جزء منه بتلذذ كبير,ثدياها صغيران ولكن لهما شكل جميل كيمامتين ترقدان هناك على صدرها تنظران إليها من أسفل,ولها بطن ناعمة بلا أي دهون تتجمع هناك أسفل ثدييها وتسري في خفة حتى المصب,تشعر بالبخار الذي يغطي جسدها بالكامل ليخلصه من السموم المختلفة,تستغرق أكثر لتتخيل هذا البخار يملأ تجاويف جسدها الداخلية ورئتيها كالسائل الأمنيوسي وعندما تنتهي تشعر بأنها قد ولدت من جديد.
ولو ذهبنا إلى مكان ما لنرقص
أعرف أن هناك احتمال
أنك لن ترحلي معي
وجسدها العاري ملفوف بالمنشفة وشعرها المبتل القصير يتأرجح على جانبي وجهها تعد لنفسها فنجانا من القهوة الغنية,تضيف المحتويات بدقة,ملعقتين من البن وملعقة من السكر ثم تبدأ في إضافة الماء بهدوء مع التقليب المستمر حتى تشعر بأنهم قد امتزجوا جيدا,تضعها بهدوء على نار هادئة,,تقلبها قليلا ويدها الأخرى تمتد إلى فنجان,تتردد للحظة ثم تعيده إلى مكانه لتحضر واحدا أكبر,مالت تجاه المنضدة القريبة حيث تستقر زجاجة من النبيذ الأحمر ممتلئة حتى المنتصف وصبت بعضا منها في الفنجان,استدارت إلى الموقد وتابعت التقليب حتى بدأت القهوة في النضوج ثم أضافتها هي الأخرى إلى فنجانها.
بعدها انتهينا إلى مكان صغير هاديء
وحصلنا على شراب أو اثنين
بعدها ذهبت وأفسدت الأمر كل
بقول شيء غبي
كأنا أحبك
حملت فنجانها وخرجت إلى الصالة,فكت منشفتها ورمتها على مقعد قريب وتناولت قميص رجالي أوكسفورد بلون القهوة الفرنسية وارتدته ,وجدت نفسها تكرر كلمات أغنية سيا فورلر "الثريا" فتناولت حاسوبها القريب وقامت بتشغيلها ثم ارتمت على الأريكة تستمع إليها وترشف ببطأ من فنجانها,كررتها مرات ومرات حتى أنها قد تسللت إلى اليوتيوب لتشاهد الفيديو الخاص بالأغنية وقفزت من مكانها محاولة تقليد الفتاة في الكليب ولكنها تعثرت وسقطت وانطلقت في الضحك بهستيريا..كانت تقرقر كالأطفال.
أنا سأتدلى من الثريا..من الثريا
أنا سأعيش وكأن الغد غير موجود
الغد غير موجود
أنا سأطير كالطائر عبر الظلام,أتحسس دموعي بينما تجف
نهضت لتجد ابنتها الصغيرة تقف عند باب غرفتها وشعرها القصير الذي يشبه شعرها يغطي وجهها فركضت تجاهها وحملتها وهي ترقص وتدور بها ,بدأت الطفلة تضحك فاحتضنتها بشدة وهي تدور بسرعة ثم ألقت بنفسها على الأريكة وهي مازالت تضمها وتناولت لباسها الداخلي الأسود من مقعد قريب وارتدته ثم حملتها من أجل حمام دافيء سريع.
انتهت من تجفيفها وألبستها ثيابا منزلية مريحة زهرية اللون مرسوم على صدرها ملكة الثلج من فيلم ديزني وبدأت في تسريح شعرها عندما خطر على بالها أن تقصه كالفتاة في الكليب فأحضرت المقص, وعندما انتهت قارنت بينهما ووجدت أنها كانت فكرة رائعة,أصبحت ابتسامتها مشرقة أكثر..قالت لها:((تبدين جميلة أيتها السيدة الصغيرة)).
أعدت لها كوبا من اللبن بالشيكولاتة وأحضرت لها دمية سبايدر مان التي ابتاعتها لها بالأمس أثناء التسوق,ضبطت الأغنية على وضع التكرار ثم تمددت بجوارها على الأرض وهي تتأمل الفتاة التي ترقص على الشاشة متجاهلة هاتفها الذي لم يتوقف عن الرنين منذ فترة,بدأت تتمايل بجسدها وتحرك يديها مع إيقاع الأغنية ثم توقفت,شعرت باقتراب واحدة من نوبات الاكتئاب الحمراء الشريرة فنهضت إلى الغرفة المجاورة وحملت حاسوبها,وضعت سماعات الرأس وقامت بتشغيل فيديو دون أن توقف الأغنية, امتدت أصابعها بين فخذيها وداعبت بنعومة حتى بلغت نشوتها عدة مرات ثم جلست منهكة تتأمل الشاشة,كانت تظهر في الفيديو مع شخص ما وهي تمارس الجنس في أوضاع متعددة والنشوة بادية على وجهيهما,امتزجت الأغنية مع أصوات تأوهاتها الخافتة وانفراجة شفتيها الخفيفة وعينيها المغلقتين في استمتاع,طالعت كل هذا بنظرة محايدة تماما.
أنا سأتحمل من أجل حياتي العزيزة
لن انظر تحتي لن أفتح عيني
سيظل كأسي مملوء حتى يطلع النهار
لأنني فقط أريد أن أصمد الليلة
نهضت إلى نافذة قريبة ونظرت إلى الليل بالخارج ثم التفتت عائدة إلى الصالة بعد أن أوقفت الفيديو,تأكدت من أن التكييف يعمل وتناولت رواية منكفئة أعلى التلفاز,كانت قد أعجبت صديقة لها جدا وأصرت أن تشتري لها نسخة عندما أخذوا الأطفال للنزهة,أدركت بعد عدة صفحات كم هي ضعيفة وتوقفت , ولكنها في حاجة لشيء يبعد عنها التفكير,حاولت الاستغراق ولكن شعرت بذهنها مشتت,فكرت أنها لا تريد أن تفعل شيئا محددا فجلست على الأريكة تتأمل طفلتها التي سقطت في النوم مرة أخرى,نهضت وحملتها إلى الأريكة وتمددت بجانبها وهي تحتضنها,وبينما هي تغيب في النعاس سمعت الأغنية تقول:
أنا فتاة أوقات المرح بمكالمة تليفونية
يتصلون بي ويدقون على بابي
أشعر بحبهم..أشعر بحبهم


(2)
 استيقظت بعد ساعة وهي تشعر بالعطش,شعرت بالعرق البارد يغمرها وهي تنهض ببطء محاذرة ألا توقظ الصغيرة النائمة,حملتها إلى غرفتها وهي تشم رائحة شعرها الطفولية,عادت وأخرجت زجاجة مياه باردة من الثلاجة وكوبا وحملتهما إلى الصالة,وهي في طريقها لمحت مكتبتها القديمة في الركن البعيد بجوار الشرفة,ملأت كوبها وشربت منه وهي تتجه إليها,تأملت صفوف الكتب المتراصة,كل كتاب هنا يشهد على جزء من حياتها,كانت تضعهم بهذا الترتيب,تنظر إليها فترى حياتها كاملة,هذه القصة اشترتها عندما كانت طفلة تمسك بيد والدتها بينما يمسك بيد أمها الأخرى شخص ليس بوالدها,وهذا الكتاب اشترته في أول أيامها في الكلية وهي تفكر أن المستقبل باحتمالاته السعيدة كلها يرقد هناك أمامها ينتظر,وهذه الرواية..تلتقطها وتمرر يدها عليها بحنان,تتذكر الأيام التي قضياها سويا,الجولات الصباحية على شاطيء البحر في الشتاء ورذاذ الأمواج الخفيف يرتطم بوجهيهما بلطف,الأمسيات الدافئة في حفلات البيانو بعد تناول النبيذ والجنس المحموم بعدها,هي من علمتها شرب النبيذ مع قطرات من دمائها والنوم على أرضية الغرفة عارية,علمتها أن تهتم بكل تفاصيل جسدها,أن تمسدها بعناية,أن تكون لها وحدها,علمتها ان تتخلص من الشعور بالذنب,ألا يدنسها رجل أبدا,لأنه من الرجال تأتي الخطايا,من الرجال تأتي الشرور,قالت لها أن الرجال سذج عندما يعطون للشيطان مفهوما ذكوريا,نقيض الرب لا يمكن أن يكون ذكرا,لا يمكن أن يكون بهذه السادية,علمتها ان تكون إلهة ,أمالت رأسها لأسفل بينما تتذكر لتجد قطرات من الدماء تمتد عبر المكان,فكرت في البداية أنها قطرات نبيذ ولكنها تبدو لزجة وطازجة,تحسستها لتجدها دافئة كذلك,نظرت إلى أسفل لتجد منطقتها الخاصة جافة تماما,بالتأكيد كانت ستشعر بالسائل الدافي المقدس على فخذها,حاولت التفكير في أي تفسير فلم تجد,الأمر يحدث الآن,ما أخبرتها هي به عندما وضعت بذرتها فيها.
تتبعت قطرات الدماء حتى وصلت إلى غرفة ابنتها,وجدتها هناك على سريرها داخل رحم ضخم تسبح بداخل سائله وقد أصبحت تشبهها تماما,مزقته بيديها ليغمرها السائل اللزج وحملت جسدها العاري المغطى بالدماء إلى سيارتها أسفل البيت وانطلقت إلى الصحراء.
انطلقت على الطريق الصحراوي بسرعة 180,الظلام يغطي كل شيء ونهر القمر الفضي يمتد أمامها لأميال,كانت ابنتها على المقعد الخلفي قد بدأت تفتح عينيها,اعتدلت في مقعدها وقالت:((أحان الوقت يا أختاه؟)),التفتت إليها وهزت رأسها,رفعت ابنتها رأسها تنظر إلى القمر وقالت:((أرتميس تبدو مبتهجة الليلة)).
لمحت نيران زرقاء تتوهج من بعيد فانحرفت بسيارتها تشق الرمال دون أن تغير سرعتها والعرق يسيل على جسدها لزجا ثقيلا وضربات قلبها تتزايد بقوة,كانت تحاول الاستعداد للقادم,اقتربوا من النيران أكثر وأكثر وبدا من بعيد ظلال لأشخاص يتحلقون حول النيران,ترجلت من السيارة مع ابنتها على بعد مئة متر وسارت تجاههم,كانوا اثنى عشر أنثى..عارية..ستة منهم متشابكي الأيدي في حلقة كبيرة بينما الآخرون يجلسون هناك عند أقدامهم..عندما رأتها..كانت تقف هناك في منتصف النيران تقرع طبولا عملاقة بهدوء..نظرت لها وابتسمت..وعندما أزالت ملابسها وأخذت مكانها في الحلقة أسفل ابنتها ازدادت قرعات الطبول بحدة,توهجت كوكبة الجبار كقطع ماسية متناثرة في السماء وانطلق صوتها من وسط النيران,قويا مهيبا..جليلا هادئا:
 أخيرا وقد التقيت بكن
يا رفيقاتي السبعة
أنا أرتميس
ربة القمر
حاملة الضياء
السيدة في السماء
 رفعت الأخوات السبعة الواقفات خناجر ذات أنصال ملتوية الحد تلتمع في منتصف كل منها ماسة ضخمة وجذبوا شعور من بالأسفل ووضعوها على اعناقهن.
 لأنكن أيتها العذراوات
قد جئتن من أوعية لم تدنس
فأنتن يا أبناء العذراوات
ستصبحون الثريا في السماء
لأنكن أبناء التضحية
ستصعدون إلى العلياء
سترتقون لتحلقوا كآلهة أبدية
 توهجت النيران بشدة وانطلقت منها دفقات من الضوء الساطع ناحية القمر الذي تحرك ليهاجم الجبار,لم يتحرك أحد منهم بينما ارتفعت رؤوسهم جميعا لأعلى يتابعون المعركة,حاول الجبار استخدام درعه ليصد هجمات القمر ولكنها كانت خاطفة ومركزة,تعرف جيدا أين تضرب بينما بدت ضربات هراوته خرقاء غير واضحة المغزى,واخيرا تمكنت أرتميس من إصابته مباشرة في الرأس فترنح بشدة وسقط فذهب بريقه,أجهزت عليه تماما وتوهجت نيرانها الزرقاء عبر السماء,عندها بدأوا عذراءا تلو الأخرى في ذبح عذراءها,وكلما انتهت واحدة توهجت بشدة وتحولت لشعاع من الضوء صعد للأعلى ليأخذ موقعه هناك في الثريا.

محمود فؤاد

 الأغاني :
1.Frank Sinatra and Nancy sinatra...somethin' stupid
2.Sia...chandelier...video clip is performed by the great Maddie Ziegler      
 

الخميس، 5 مايو 2016

الثريا..قصة(2)



استيقظت بعد ساعة وهي تشعر بالعطش,شعرت بالعرق البارد يغمرها وهي تنهض ببطء محاذرة ألا توقظ الصغيرة النائمة,حملتها إلى غرفتها وهي تشم رائحة شعرها الطفولية,عادت وأخرجت زجاجة مياه باردة من الثلاجة وكوبا وحملتهما إلى الصالة,وهي في طريقها لمحت مكتبتها القديمة في الركن البعيد بجوار الشرفة,ملأت كوبها وشربت منه وهي تتجه إليها,تأملت صفوف الكتب المتراصة,كل كتاب هنا يشهد على جزء من حياتها,كانت تضعهم بهذا الترتيب,تنظر إليها فترى حياتها كاملة,هذه القصة اشترتها عندما كانت طفلة تمسك بيد والدتها بينما يمسك بيد أمها الأخرى شخص ليس بوالدها,وهذا الكتاب اشترته في أول أيامها في الكلية وهي تفكر أن المستقبل باحتمالاته السعيدة كلها يرقد هناك أمامها ينتظر,وهذه الرواية..تلتقطها وتمرر يدها عليها بحنان,تتذكر الأيام التي قضياها سويا,الجولات الصباحية على شاطيء البحر في الشتاء ورذاذ الأمواج الخفيف يرتطم بوجهيهما بلطف,الأمسيات الدافئة في حفلات البيانو بعد تناول النبيذ والجنس المحموم بعدها,هي من علمتها شرب النبيذ مع قطرات من دمائها والنوم على أرضية الغرفة عارية,علمتها أن تهتم بكل تفاصيل جسدها,أن تمسدها بعناية,أن تكون لها وحدها,علمتها ان تتخلص من الشعور بالذنب,ألا يدنسها رجل أبدا,لأنه من الرجال تأتي الخطايا,من الرجال تأتي الشرور,قالت لها أن الرجال سذج عندما يعطون للشيطان مفهوما ذكوريا,نقيض الرب لا يمكن أن يكون ذكرا,لا يمكن أن يكون بهذه السادية,علمتها ان تكون إلهة ,أمالت رأسها لأسفل بينما تتذكر لتجد قطرات من الدماء تمتد عبر المكان,فكرت في البداية أنها قطرات نبيذ ولكنها تبدو لزجة وطازجة,تحسستها لتجدها دافئة كذلك,نظرت إلى أسفل لتجد منطقتها الخاصة جافة تماما,بالتأكيد كانت ستشعر بالسائل الدافي المقدس على فخذها,حاولت التفكير في أي تفسير فلم تجد,الأمر يحدث الآن,ما أخبرتها هي به عندما وضعت بذرتها فيها.

تتبعت قطرات الدماء حتى وصلت إلى غرفة ابنتها,وجدتها هناك على سريرها داخل رحم ضخم تسبح بداخل سائله وقد أصبحت تشبهها تماما,مزقته بيديها ليغمرها السائل اللزج وحملت جسدها العاري المغطى بالدماء إلى سيارتها أسفل البيت وانطلقت إلى الصحراء.

انطلقت على الطريق الصحراوي بسرعة 180,الظلام يغطي كل شيء ونهر القمر الفضي يمتد أمامها لأميال,كانت ابنتها على المقعد الخلفي قد بدأت تفتح عينيها,اعتدلت في مقعدها وقالت:((أحان الوقت يا أختاه؟)),التفتت إليها وهزت رأسها,رفعت ابنتها رأسها تنظر إلى القمر وقالت:((أرتميس تبدو مبتهجة الليلة)).

لمحت نيران زرقاء تتوهج من بعيد فانحرفت بسيارتها تشق الرمال دون أن تغير سرعتها والعرق يسيل على جسدها لزجا ثقيلا وضربات قلبها تتزايد بقوة,كانت تحاول الاستعداد للقادم,اقتربوا من النيران أكثر وأكثر وبدا من بعيد ظلال لأشخاص يتحلقون حول النيران,ترجلت من السيارة مع ابنتها على بعد مئة متر وسارت تجاههم,كانوا اثنى عشر أنثى..عارية..ستة منهم متشابكي الأيدي في حلقة كبيرة بينما الآخرون يجلسون هناك عند أقدامهم..عندما رأتها..كانت تقف هناك في منتصف النيران تقرع طبولا عملاقة بهدوء..نظرت لها وابتسمت..وعندما أزالت ملابسها وأخذت مكانها في الحلقة أسفل ابنتها ازدادت قرعات الطبول بحدة,توهجت كوكبة الجبار كقطع ماسية متناثرة في السماء وانطلق صوتها من وسط النيران,قويا مهيبا..جليلا هادئا:

أخيرا وقد التقيت بكن
يا رفيقاتي السبعة
أنا أرتميس
ربة القمر
حاملة الضياء
السيدة في السماء

رفعت الأخوات السبعة الواقفات خناجر ذات أنصال ملتوية الحد تلتمع في منتصف كل منها ماسة ضخمة وجذبوا شعور من بالأسفل ووضعوها على اعناقهن.

لأنكن أيتها العذراوات
قد جئتن من أوعية لم تدنس
فأنتن يا أبناء العذراوات
ستصبحون الثريا في السماء
لأنكن أبناء التضحية
ستصعدون إلى العلياء
سترتقون لتحلقوا كآلهة أبدية

توهجت النيران بشدة وانطلقت منها دفقات من الضوء الساطع ناحية القمر الذي تحرك ليهاجم الجبار,لم يتحرك  أحد منهم بينما ارتفعت رؤوسهم جميعا لأعلى يتابعون المعركة,حاول الجبار استخدام درعه ليصد هجمات القمر ولكنها كانت خاطفة ومركزة,تعرف جيدا أين تضرب بينما بدت ضربات هراوته خرقاء غير واضحة المغزى,واخيرا تمكنت أرتميس من إصابته مباشرة في الرأس فترنح بشدة وسقط فذهب بريقه,أجهزت عليه تماما وتوهجت نيرانها الزرقاء عبر السماء,عندها بدأوا عذراءا تلو الأخرى في ذبح عذراءها,وكلما انتهت واحدة توهجت بشدة وتحولت لشعاع من الضوء صعد للأعلى ليأخذ موقعه هناك في الثريا.

محمود فؤاد  

الأربعاء، 4 مايو 2016

agalmata



يقول الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك عن بيضة كيندر في كتابه وفيلمه الوثائقي"دليل المنحرفين للأيدولوجيا":((بيضة كيندر مع مفاجأة..سلعة مذهلة إلى حد كبير..المفاجأة في 'بيضة كيندر مع مفاجأة' هي..هذه الحاجة لشيء بشدة..السبب في رغبتك..أصبح هنا في صورة مادية..في مظهر شيء ملموس...لعبة بلاستيكية تملأ الفراغ الداخلي لبيضة الشيكولاتة..كل التوازن الدقيق هو بين هذين المحورين : ما اشتريته،بيضة الشيكولاتة، والباقي-الذي ربما صنع في أحد معسكرات العمل الصينية أو أيا يكن-الجزء الزائد الذي تحصل عليه مجاناً. لا أظن أن إطار الشيكولاتة الخارجي هنا هو لمجرد إرسالك في رحلة أعمق تجاه الكنز الداخلي،ما أسماه أفلاطون بال'agalma' التي تجعلك شخصا ذا قيمة،التي تجعل السلعة سلعة مرغوبة..أعتقد أنه على العكس من ذلك..لابد أن نسعى إلى الهدف الأعلى،الذهب في وسط شيء..بالتحديد لكي تكون قادرا على الاستمتاع بالسطح..هذا هو الدرس المضاد للمعنى الميتافيزيقي الماورائي الذي يصعب قبوله وتصديقه))
والagalma هي لفظ إغريقي يعني القرابين التي تقدم للألهة وعند أفلاطون فإن الكون المخلوق هو مزار أحضر إلى الوجود من أجل الآلهة الأزلية وهذا يجعلها تشعر بشعور جيد تجاه أنفسها كما يشعر الفرد بالرضا عن النفس عند تقديمه القرابين الدينية لترضى عنه الآلهة.
يقول ماركس أن السلعة كيان غامض مليء بالنزوات اللاهوتية،شيء معين يرضي حاجة معينة ولكنه في نفس الوقت أيضا يعد بشيء أكثر من المتعة الخفية والتي موقعها الحقيقي في فانتازيا الشخص.
هم يقولون لك أنك إذا اشتريت السلعة فإنك لن تحصل على الشيكولاتة فقط ولكن أكثر من ذلك وهي لعبة بلاستيكية وهي فلسفة عالم التسويق عامة والتي تعدك بالمزيد دوما..اشتري كذا وسوف تحصل على كذا.
الغريب بالنسبة لبيضة كيندر أن ما بداخلها عديم الأهمية فعلا..لعبة بلاستيكية تفقد شغفك بها بعد دقائق..فما المثير بشأن هذه البيضة؟
اعتادت بعض الأديان القديمة على تشبيه روح الإنسان بالبيضة كما أن بيض عيد الفصح يرمز في الثقافة المسيحية إلى الخصوبة والتناسل وهي عادة أصلها الديانة المصرية القديمة..هذا الفراغ داخل بيضة كيندر يشبه ذلك الفراغ المستقر داخل روح الإنسان الحديث ولكن فراغ البيضة به شيء ما..وهذا الشيء رغم غياب قيمة حقيقية له هو مفاجأة..فكأن الإنسان الذي يعيش حالة من الوحدة والاضطراب والاغتراب والفراغ الداخلي يحتاج أن يملأه حتى ولو بلعبة بلاستيكية تافهة لبضعة دقائق في يومه.
وبالنسبة للخصوبة قد يستخدم شخص هذه البيضة ليثير شغف شريك معتمدا على المفاجأة التي تمثل بالفعل طبيعة معاناة الإنسان المعاصر المغترب الوحيد المشتت الذي تحول الاستهلاك لديه لرغبة عارمة لا يردعها شيء مع خالص حبي واحترامي لثقافة الاستهلاك


الثلاثاء، 3 مايو 2016

الثريا..قصة (1)




لحظة من السعادة الباهرة,الليل يبتلع أشعة الشمس الأخيرة بهدوء ونسمة لطيفة من الهواء البارد برائحة النعناع والقرنفل والتربة الرطبة التي تم تقليبها  في حديقة للتو تمس وجهها الذي يموج بدفء خافت كخزف أصلي تحت شمس خريفية.
تتسرب الظلمة بهدوء عبر الشرفة والصمت يغمر المكان وتبدأ الحمرة الخفيفة للسماء في الهروب من بين يديها,تحاول دائما أن تحدد تلك اللحظة الفاصلة التي يعلن فيها الظلام انتصاره ولكن يبدو أن هذا مستحيل.

أعرف أنني انتظرت في طابور
حتى فكرتي أن لديك الوقت
لقضاء أمسية معي

تنهض من مكانها لتأخذ حماما منعشا يوقظ حواسها,يساعدها الماء دوما في تهدئة أعصابها,تغمض عينيها وتشحذ حواسها لتمتزج بصوت الماء االذي ينساب  بنعومة على جسدها ليمسد عضلاتها بلطف,تنظر إلى جسدها بإعجاب وتتحسس كل جزء منه بتلذذ كبير,ثدياها صغيران ولكن لهما شكل جميل كيمامتين ترقدان هناك على صدرها تنظران إليها من أسفل,ولها بطن ناعمة بلا أي دهون تتجمع هناك أسفل ثدييها وتسري في خفة حتى المصب,تشعر بالبخار الذي يغطي جسدها بالكامل ليخلصه من السموم المختلفة,تستغرق أكثر لتتخيل هذا البخار يملأ تجاويف جسدها الداخلية ورئتيها كالسائل الأمنيوسي وعندما تنتهي تشعر بأنها قد ولدت من جديد.

ولو ذهبنا إلى مكان ما لنرقص
أعرف أن هناك احتمال
أنك لن ترحلي معي

وجسدها العاري ملفوف بالمنشفة وشعرها المبتل القصير يتأرجح على جانبي وجهها تعد لنفسها فنجانا من القهوة الغنية,تضيف المحتويات بدقة,ملعقتين من البن وملعقة من السكر ثم تبدأ في إضافة الماء بهدوء مع التقليب المستمر حتى تشعر بأنهم قد امتزجوا جيدا,تضعها بهدوء على نار هادئة,,تقلبها قليلا ويدها الأخرى تمتد إلى فنجان,تتردد للحظة ثم تعيده إلى مكانه لتحضر واحدا أكبر,مالت تجاه المنضدة القريبة حيث تستقر زجاجة من النبيذ الأحمر ممتلئة حتى المنتصف وصبت بعضا منها في الفنجان,استدارت إلى الموقد وتابعت التقليب حتى بدأت القهوة في النضوج ثم أضافتها هي الأخرى إلى فنجانها.

بعدها انتهينا إلى مكان صغير هاديء
وحصلنا على شراب أو اثنين
بعدها ذهبت وأفسدت الأمر كل
بقول شيء غبي
كأنا أحبك

حملت فنجانها وخرجت إلى الصالة,فكت منشفتها ورمتها على مقعد قريب وتناولت قميص رجالي أوكسفورد بلون القهوة الفرنسية وارتدته ,وجدت نفسها تكرر كلمات أغنية سيا فورلر "الثريا" فتناولت حاسوبها القريب وقامت بتشغيلها ثم ارتمت على الأريكة تستمع إليها وترشف ببطأ من فنجانها,كررتها مرات ومرات حتى أنها قد تسللت إلى اليوتيوب لتشاهد الفيديو الخاص بالأغنية وقفزت من مكانها محاولة تقليد الفتاة في الكليب ولكنها تعثرت وسقطت وانطلقت في الضحك بهستيريا..كانت تقرقر كالأطفال.

أنا سأتدلى من الثريا..من الثريا
أنا سأعيش وكأن الغد غير موجود
الغد غير موجود
أنا سأطير كالطائر عبر الظلام,أتحسس دموعي بينما تجف

نهضت لتجد ابنتها الصغيرة تقف عند باب غرفتها وشعرها القصير الذي يشبه شعرها يغطي وجهها فركضت تجاهها وحملتها وهي ترقص وتدور بها ,بدأت الطفلة تضحك فاحتضنتها بشدة وهي تدور بسرعة ثم ألقت بنفسها على الأريكة وهي مازالت تضمها وتناولت لباسها الداخلي الأسود من مقعد قريب وارتدته ثم حملتها من أجل حمام دافيء سريع.
انتهت من تجفيفها وألبستها ثيابا منزلية مريحة زهرية اللون مرسوم على صدرها ملكة الثلج من فيلم ديزني وبدأت في تسريح شعرها عندما خطر على بالها أن تقصه كالفتاة في الكليب فأحضرت المقص, وعندما انتهت قارنت بينهما ووجدت أنها كانت فكرة رائعة,أصبحت ابتسامتها مشرقة أكثر..قالت لها:((تبدين جميلة أيتها السيدة الصغيرة)).
أعدت لها كوبا من اللبن بالشيكولاتة وأحضرت لها دمية سبايدر مان التي ابتاعتها لها بالأمس أثناء التسوق,ضبطت الأغنية على وضع التكرار ثم تمددت بجوارها على الأرض وهي تتأمل الفتاة التي ترقص على الشاشة متجاهلة هاتفها الذي لم يتوقف عن الرنين منذ فترة,بدأت تتمايل بجسدها وتحرك يديها مع إيقاع الأغنية ثم توقفت,شعرت باقتراب واحدة من نوبات الاكتئاب الحمراء الشريرة فنهضت إلى الغرفة المجاورة وحملت حاسوبها,وضعت سماعات الرأس وقامت بتشغيل فيديو دون أن توقف الأغنية, امتدت أصابعها بين فخذيها وداعبت بنعومة حتى بلغت نشوتها عدة مرات ثم جلست منهكة تتأمل الشاشة,كانت تظهر في الفيديو مع شخص ما وهي تمارس الجنس في أوضاع متعددة والنشوة بادية على وجهيهما,امتزجت الأغنية  مع أصوات تأوهاتها الخافتة وانفراجة شفتيها الخفيفة وعينيها المغلقتين في استمتاع,طالعت كل هذا بنظرة محايدة تماما.

أنا سأتحمل من أجل حياتي العزيزة
لن انظر تحتي لن أفتح عيني
سيظل كأسي مملوء حتى يطلع النهار
لأنني فقط أريد أن أصمد الليلة

نهضت إلى نافذة قريبا ونظرت إلى الليل بالخارج  ثم التفتت عائدة إلى الصالة بعد أن أوقفت الفيديو,تأكدت من أن التكييف يعمل وتناولت رواية منكفئة أعلى التلفاز,كانت قد أعجبت صديقة لها جدا وأصرت أن تشتري لها نسخة عندما أخذوا الأطفال للنزهة,أدركت بعد عدة صفحات كم هي ضعيفة وتوقفت ولكنها في حاجة لشيء يبعد عنها التفكير,حاولت الاستغراق ولكن شعرت بذهنها مشتت,فكرت أنها لا تريد أن تفعل شيئا محددا فجلست على الأريكة تتأمل طفلتها التي سقطت في النوم مرة أخرى,نهضت وحملتها إلى الأريكة وتمددت بجانبها وهي تحتضنها,وبينما هي تغيب في النعاس سمعت الأغنية تقول:
أنا فتاة أوقات المرح بمكالمة تليفونية
يتصلون بي ويدقون على بابي
أشعر بحبهم..أشعر بحبهم


محمود فؤاد

الأغاني :
1.Frank Sinatra and Nancy sinatra...somethin' stupid
2.Sia...chandelier...video clip is performed by the great Maddie Ziegler     
     

الخميس، 11 فبراير 2016

نساء في أدب نجيب محفوظ


بريشة حلمي التوني
من اليمين>>

-الصف الأول:حميدة(زقاق المدق)*نور(اللص والكلاب)*زنوبة(ثلاثية القاهرة)

-الصف الثاني:سمارة بهجت(ثرثرة فوق النيل)*إحسان شحاتة(القاهرة الجديدة)*رجاء محمد(الحب فوق هضبة الهرم)

-الصف الثالث:زهرة(ميرامار)*أمينة(ثلاثية القاهرة)*نفيسة(بداية ونهاية)

**from my studio at home



الأحد، 24 يناير 2016

كافكا يفقد شعره


بقلم:محمود فؤاد

تقدمت عربة الترحيلات ببطء تعبر سياج مرتفع من السلوك الشائكة لمحته مع الشعاع الوحيد للضوء الذي تسرب من الفتحة التي تركوها للتنفس في سقف الشاحنة ثم عاد الظلام يغمرنا مرة ثانية,في هذه اللحظة عبر بصري خيال لوجوه الآخرين الذين لابد وأنني أشبههم الآن تماما,وجوه هزيلة شاحبة بارزة عظام الوجنتين تغطيها خصلات من الشعر المتشابك بالوحل والقاذورات ونظرة فارغة تماما من أي معنى,كنا نعرف الآن مصيرنا بالضبط وهو مقارنة بالدفن حيا أسوأ بكثير,هذا ما نعرفه رغم أننا لا نعرف ما هو بالضبط..عندما تدفن حيا فإنك ستموت بعد أسبوعين أو ثلاثة على أقصى تقدير.
أصدرت فرامل الشاحنة عواءا طويلا وسمعنا صوت خطوات أحذية عسكرية ثقيلة تدور حولها ثم صوت مفاتيح تدور في أقفال بقوة وانفتح الباب وقفز حارسان ضخمان يرتديا المعاطف الطويلة الخاصة بقوات حفظ السلام كما يسمونها إلى داخل صندوق الشاحنة , كان الظلام يغطي كل شيء ولا يبدو أي ضوء لمنطقة مأهولة من بعيد مع صقيع قاتل لا يمكن أن تجده إلا في منطقة صحراوية,وقف في مواجهة الباب ضابط برتبة عقيد يرتدي معطفا رماديا ثقيلا على زي عسكري كامل وقفازين من الجلد الأسود ويبدو على وجهه انطباعا باردا ثقيلا,من خلفه بدا المبنى الرهيب الذي كنا نسمع عنه فقط,عند هذه النقطة انهال علينا الحارسان ركلا بأحذيتهم الثقيلة وهم يدفعوننا خارج العربة لنتساقط فوق بعضنا وأنا أشعر بأن عظامي قد سحقها الصقيع مع أقدامهم إلى فتات ليظهر فجأة من العدم حراس آخرون وينهالون علينا بهراوات غليظة وعصيان كهربائية طالبين أن ننتظم جنبا إلى جنب ونتجرد من ملابسنا تماما,وقفنا عارين تماما وأنا أتخيل أنني سأموت في هذه اللحظة بالتأكيد وأنني إذا نظرت إلى أطرافي فلن أجد أيا منها ,بدأ احد الحراس يرش علينا مسحوقا أبيض وظهر آخر بخرطوم ضخم وأغرقنا بالماء ثم أُ ُلقي أمام كل منا بحقيبة ملابس وطلب منا أن نرتديها بسرعة ولم يكن في حاجة أن يطلب,بعدها تحركنا إلى الأمام بزينا الأسود من قطعة واحدة كالأفارول وعبرنا بوابة المبنى التي تحمل أعلاها الشعار العملاق للجمهورية ودخلنا إلى غرفة جانبية واحدا واحد ليزيلوا عنا الشعر بالكامل ونهائيا باستخدام الليزر ثم قاموا بطبع شرائط باركود كوشم على أرضية رؤوسنا العارية بعدها قادونا في صف طويل إلى طابق أعلى وسرنا عبر ممر طويل تقع على جانبيه مئات الغرف. 
دفعني الحارس إلى غرفة بها سرير معدني لا يتسع لفرد واحد حتى, تستطيع أن تنهض عنه بالكاد لتجلس إلى رف معدني,لم ينطق لنا أحد من الحراس بكلمة واحدة منذ دخلنا..كان تعاملهم معنا بأكمله بالعصا الكهربائية والهراوات ثم بالإشارة, وبعد أن خرج وقبل أن أغرق في ظلام دامس تماما استطعت أن أدور بنظري في جدران الغرفة الرمادية الملساء والتي لا تحتوي على فتحة واحدة إلا تلك التي بجانب السرير والتي يمكن استخدامها للتبول والتبرز وبعد أن أطفأت الأنوار استطعت أن أرى مستقبلي جيدا.
************
استيقظت على صدمة كهربائية سحقت كياني بأكمله,وشعرت بأن مخي نفسه قد دهسته مدرعة حربية,وفي الخط الفاصل ما بين الحلم والحقيقة استطعت أن أرى طبيبا وحارسان يحملان جهازا ذي أقطاب ويغادرون وتحولت طرقات أحذيتهم على الأرضية إلى رصاصات تخترق أذني فأخذت أتلوى في السرير حتى سقطت أرضا لارتطم بالمقعد المعدني المثبت إلى الأرض بقوة,نهضت وأنا أشعر بوهن شديد لأجد على الرف أمامي ساعة و كتاب من خمسين ورقة مكتوب على غلافه سيتم اختبارك في محتويات هذا الكتاب الساعة السادسة مساءا,نظرت إلى الساعة فوجدتها الثامنة,حاولت أن اسحب الكرسي لاجلس وتذكرت أنه مثبت فجلست وفتحت الكتاب لأجده يتحدث عن تشريح النباتات وخلاياها مليء بالأرقام المعقدة والإحصائيات والتفاصيل الفرعية,شرد ذهني كثيرا في المنتصف أتذكر حياتي السابقة لكنني أنهيته وراجعته بالكاد عندما فتح الباب عند السادسة بالضبط ووقف عنده شخص قصير يرتدي بدلة عادية رمادية اللون تحمل على جيبها العلوي الأيسر شعار الجمهورية مطرز بأناقة وفخامة رائعة وخلفه حارسان ضخما الجثة ملامحهم جلفة غليظة وبدأ في إلقاء الأسئلة علي متعمدا أن يطلب مني ذكر الأرقام والتفاصيل الغير مهمة ثم التفاصيل المعقدة بوجه خال تماما من أي تعبيرا أو رد فعل على إجاباتي,كان جسدي يئن من المقعد القاسي وقلة النوم والبرد ولكنني كنت أجيب على أسئلته بسهولة وعند السؤال الأخير سمعت صراخا قادما من الغرفة المقابلة لم أتصور يوما أن بشريا قادرا على إصداره,لم يلتفت الرجل أو الحارسان حتى ولم يبدو عليهم أي تغير عندما سألتهم عن ما يحدث.
**********
بعد ثلاثة أيام عرفت ما كان يحدث ولكن بالطريقة الصعبة ودون أن أقصد,كان قد تكون عندي انعكاسا شرطيا جعلني استيقظ قبل الساعة السابعة كل يوم بعد يوم واحد آخر من استيقاظي على صدمة كهربائية أخرى أفرغت فيها مخي مع أحشائي من كل فتحات جسدي,كالعادة دخل الحارسان مع الطبيب ليشغلوا حيز الغرفة بأكملها وبدت على وجهه خيبة أمل كبيرة عندما وجدني مستيقظا,وضع الكتاب الجديد على الرف ثم استدار وغادر,جلست إلى المكتب وفتحت الكتاب وبدأت في حفظه وكانت ذاكرتي قد بدات الاعتياد على تسجيل المعلومات واستراجعها بسهولة,لطالما كنت بارعا في هذا,تذكرت حياتي السابقة,لكم اشتاق لأن استمع لمقطوعة موسيقية أخرى لتشايكوفسكي أو بيتهوفن,أن استمع لعزف جون كولتراين أو مايلز دافيز وأنا أجلس على أريكتي أقرأ رواية لنجيب محفوظ أو تولستوي أو مسرحية لجوتة,أن أقرأ أشعار دانتي بتمهل فأقلبها على كل وجوهها ثم تسري في جسدي تلك الانتشاءة التي يحملها إليه معنى جديد..هنا الطريق إلى مدينة العذاب,هنا الطريق إلى الألم الأبدي,هنا الطريق إلى القوم الهالكين..استغرقتني تلك الخواطر وغيرها عندما نظرت إلى الساعة لأجدها قد أصبحت الثانية,كان حجم الكتب قد بدأ في الازدياد ومواضيعها تصبح أكثر تعقيدا وصعوبة,أيقنت أنه لن استطيع أن انهي المطلوب مني قبل السادسة وتساءلت بداخل نفسي عما سيحدث لي إذا لم اتمكن من الإجابة جيدا وتذكرت الصرخات التي سمعهتا منذ وصولي وشعرت بسواد يجثم على روحي,حاولت إنقاذ ما يمكن حتى دقت السادسة فانفتح الباب وبرز الرجل القصير وبدأ يسأل جاوبت سؤالين فامطرني بوابل آخر لم استطع أن انطق فيه حرفا وابتسامة ترتسم على وجهه بهدوء فتراجع إلى الخلف وتقدم الحارسان يحملان جهاز الصعق الكهربائي,حاولت المقاومة لكنني كنت كالطفل فقاما بتثبيتي إلى السرير المجهز بقطع تثبيت حديدية على جانبه وقاموا بوضع الأقطاب أولا على رأسي ثم أقطاب أخرى على خصيتاي متصلة بجهاز أصغر (فكرت في هذه اللحظة أنهم لا ينوون قتلي وهذه فكرة أكثر إفزاعا من الموت نفسه) وبدأ أحدهم يضخ الكهرباء إلى جسدي وأنا انتفض بقوة وأعض بأقصى ما أملك على القطعة التي وضعوها بفمي حتى لا أقطع لساني أو أبلعه,بدأوا يرفعون الفولت بالتدريج ومعه ارتفع صراخي أكثر وأكثر,كنت أتساءل لماذا يتركوننا هذه الفترة من السابعة حتى السابعة في الصباح التالي ثم أدركت عندما لم أفق إلا في السابعة صباحا,أدركت أيضا انه في الأيام التي تعبر فيها بنجاح فإنك لن تستطيع أن تفكر في أي شيء آخر سوى أنه كيف ستعبر من ذلك في اليوم التالي وتظل في عذاب مقيم إلى أن يغلبك النوم لحسن حظك بعد أن نشأ لديك ذلك الكابوس الخاص بأنك لن تنام وبالتالي لن تكون بنشاطك لتحفظ المطلوب منك وعندها أضمن لك انك ستنام نوما عميقا.
********
في السنوات الأولى كنت رغما عني أشرد لساعات ,حاولت أن انظم الأمر وأن اخطف دقائق استرجع فيها متعي السابقة لأحافظ على سلامة عقلي ولأواصل لكن الضغط كان أقوى, كنت استغرق في الذكريات حتى جاء اليوم الذي نضبت فيه,أو أنني لم أعد استطيع استعادتها,كنت أحيانا اتعمد ألا استذكر جيدا حتى أحصل على شحنتي الكهربية فاستطيع النوم بعد أيام طويلة من العذاب المقيم,كنت أقضي ليالي بأكملها مادا يداي أمامي أتخيل عليها أحد وجوه حياتي السابقة وابدأ في الحديث إليه حتى ذابت هذه الوجوه تماما ونسيتها كأنها لم توجد قط,كان الطعام مع الماء يقدم لي من فتحة في الباب مرة واحدة اقتسمها للغذاء والعشاء,كان الباب يفتح مرة واحدة أسبوعيا يشيرون لي فيها بخلع ملابسي ثم يرشون المسحوق الأبيض والماء ويغادرون فأرتدي ملابسي مرة أخرى وأظل ارتجف حتى الصباح,اتخذت من ذكرياتي مع من أحبهم سببا للأمل واجتهدت في المذاكرة بعد أن رأيت الاستحسان في بعض الأوقات على وجه رجل آخر كان قد حل محل الرجل القصير بعد سنوات طويلة و بأنهم سيسمحون لي بالخروج ولكن سنوات أخرى مرت تغير معها هذا الرجل وظللت أنا,حاولت الانتحار ولكن الغرفة كانت خالية فعلا من أي شيء يصلح لذلك,جربت أن أصرخ لليال طويلة ولكن الغرفة كانت عازلة للصوت على ما يبدو,مرت سنوات وسنوات أخرى لم أر فيها وجهي منذ آخر مرة نظرت فيها إلى مرآة ولم أتبادل حديثا من أي نوع مع أي أحد,أجلس في الظلام أتحسسه فتصطدم يدي بالعظام الجافة والجلد المتقرح الرقيق,كنت قد فقدت القدرة على البكاء بعد السنوات القليلة الأولى,وبعد سنوات اخرى فقدت القدرة على التضرع إلى أي قوة قد تكون موجودة وتمتلك مثقال ذرة من الرحمة,أجلس وأعتصر جسدي بذراعي وكأن مجرد الرغبة الشديدة في الموت ستأتي به حتى فقدت القدرة على الرغبة أصلا.
*******
ذات صباح دخل إلى الغرفة ثلاثة حراس مع ضابط شاب ذو وجه حليق تماما وعيون غائرة ميتة النظر وأشار لهم أن يقتادوني أمام الغرفة ثم أخرج مسدسه وصوبه إلى جبهتي وهو ينظر إلى عيني ,شعرت بالسعادة تغمرني ,أخيرا اللحظة قد جاءت, ولكنه بقي على هذا الوضع لدقائق أعادني بعدها الحارسان للداخل ووضعوا الكتاب اليومي على الرف وغادروا,تكرر هذا الأمر لسنوات طويلة حتى فقدت الأمل في الموت نفسه.
******
ذات صباح دخل ضابط مع حارسان آخران في تمام السابعة صباحا وأطلق رصاصة واحدة نفذت من جبهتي واستقرت هناك في مؤخرة مخي دون أن تنفذ من الرأس.

       

السبت، 23 يناير 2016

موت



 محمود فؤاد

الأسوء من الموت هو انتظار الموت..الأسوء من انتظار الموت هو أن تقرر الطبيعة وقوانين الصدفة في لحظة عادية جدا في يوم طبيعي جدا أن تنهي حياتك..أتذكر مشهد من المسلسل الأمريكي "فارجو" عندما تبع ابن زعيم المافيا المحلية قاضية إلى إحدى مطاعم الوافلز على الطريق ودخل وراءها ليجبرها على تغيير رأيها بشأن قضية لأحد عملائه..وعندما أعلنت رفضها برواية قصة توراتية عن المواجهة بين أيوب والشيطان و حذرته أن يرحل ثم أطلقت في وجهه سبراي للدفاع عن النفس أخرج مسدسه وأرداها وعندما تحرك النادل محاولا ضربه على رأسه قتله هو الآخر..ثم استدار إلى النادلة الريفية التي استقبلته عند دخوله وقد شلها الخوف وأرداها هي الأخرى..هناك ثلاثة أشخاص انتهت حياتهم في هذه اللحظة لأن ظروفا ما قد اجتمعت لتخلق هذا الموقف..لا اتكلم عن أن الميت كان يمتلك أسرة وحياة وكل هذا..هذا يعتمد..بعد أن يموت هو فلن يختلف معه الأمر في شيء..الأمر نفسه غير عادل بالمرة وغير مبرر ولكنه منطقي..الطبيعة لا تسير وفق إرادة أحد ولا تهتم بالمرة بمشاعرك الشخصية ولكننا للأسف نمتلك مثل هذه المشاعر..في قصة قصيرة لستيفن كنج بعنوان "وفاة" يقوم شخص سكير باغتصاب وقتل فتاة صغيرة يوم عيد ميلادها ليحصل على دولارها الفضي وقد تم العثور على قبعته التي لا يراه أحد دونها في مسرح الجريمة..البلدة كلها تعرف أنه القاتل إلا أن مأمور الشرطة هو الشخص الوحيد الذي يشك أنه قد يكون مظلوما..القاتل نفسه حتى اللحظة الأخيرة وقبل أن يتدلى من المشنقة يبدو مقتنعا تماما بأنه لم يفعل ذلك..الشريف يظل على شكه هذا حتى يكتشفوا الدولار الفضي في برازه الذي سقط مع ارتخاء عضلاته العاصرة لحظة اعدامه..نعم هو بالتأكيد مغتصب وقاتل ولكنك إذا نظرت للأمر من منظور آخر فهذا رجل قادته حياته كاملة لهذه اللحظة..انحدر به الحال حتى أصبح سكيرا بائسا وفعل ما فعله..نعم هو مظلوم ولكن ليس كما رآه الشريف..كلا من القاضية والنادل والنادلة الريفية والقاتل السكير والطفلة استيقظوا صباحا وهم لا يعرفون أن حياتهم تبقى فيها ساعات وهذه فكرة أكثر إرعابا من الموت نفسه ..أحب أن أفكر أن الطبيعة وحتى قبل ظهور الحياة ومرورا بكل أسلافنا ولمليارات السنين تدبر لي كل لحظة أعيشها الآن ولكنني عندما أصل إلى فكرة الموت بهذا الشكل أشعر بالغرابة وخوف مبهم..اليابانيون يقيمون الاحتفالات والموسيقى ويرتدون الأزياء الملونة في وفاة الأشخاص كبار السن..في فلسفتهم هو قد عاش حياة طويلة وسعيدة حتى استحق أن يرقد أخيرا في سلام ويعود إلى الطبيعة ليمتزج بها مرة أخرى..يحزنون فقط عند وفاة شخص صغير أو كما نقول :مات ناقص عمر.......يقول نجيب محفوظ في سن متقدمة من عمره المديد: أعتقد أنني قد أقمت حياتي على الحب..حب العمل..حب الناس..حب الحياة..وأخيرا...حب الموت

الإنسان الأعلى 2


محمود فؤاد
يقول (كايلو رين) : أخاف ألا أكون عظيما مثل دارث ڤادر.
العظمة الحقيقية لسلسلة حرب النجوم تكمن في ضربها كل المقاييس الاقتصادية للسينما ووضعها كركن أساسي من أقوى اقتصاد عالمي كنتيجة مباشرة ونهائية لأن السينما الأمريكية نشأت من اللحظة الأولى لتكون عالمية..رسخت السلسلة لثقافة أفلام الblockbuster شديدة الجماهيرية والتأثير والميزانيات الضخمة وبالتالي الأرباح الهائلة ودعمت بشكل نهائي الهيمنة الثقافية الأمريكية على الكوكب..الحبكة القصصية التي تخاطب حتى أدنى العقول وتعتصر ما في جيوبها من من نقود قليلة..من ناحية هي تقدم لمتوسطي وضعيفي الموهبة مبررا لوجودهم ودعمهم للحضارة التي أتاحت لهم مثل هذا النوع من المتعة ومن أخرى تسرب إلى وعيهم أمل زائف بأن أسس الجمهورية من ديمقراطية وحرية وغيرها قابلة للتحقيق بصورتها المثالية وأن الشر الخام المتمثل في الملكية ( أو الامبراطورية) و أسميها أنا الحضارة سيسقط بالتأكيد في أحد الأيام..رغم هذا أحب الناس شخصية (ڤادر) أكثر من ( لوك سكاي ووكر) أو (هان سولو) المهرج..شخصية تشع منها قوة وعظمة وطموح رهيب..شخصية ذكية تفعل أكثر مما تتكلم وتعرف جيدا ماذا تخدم..التحول الدرامي له من (أناكين سكاي ووكر) الذي لا يعرف ماذا يريد بالضبط ويشك في قدرات الجمهورية على تحقيق أي شيء وعبثية الدفاع عن بقائها إلى القائد دارث ڤادر..الجمهورية والديمقراطية في السلسلة نفسها تبدو نظاما ضعيفا وهشا لا يستطيع الصمود في وجه أي تغيرات أو تحديات..نظام شكلي فوضوي لا يساهم في بناء أي حضارة أو قوة حقيقية يمكن الارتكان إليها بينما يبدو الجانب المظلم منظما بشكل كبير..قوة عسكرية جبارة وتقدم تكنولوجي رهيب وقيادة تمتلك رؤية قوية واضحة..نظام يدعم اقتصاد مفتوح قوي يستطيع دائما أن يتعافى من سقطاته ودائما ما يعود مرة أخرى رغم إرادة الفوضويين ليستعيد النظام ودوره في بناء الحضارة..نظام لا يعترف باحتياجات بشرية ضيقة في مقابل مجد عظيم وقوة هائلة يتم بناءها..نظام يدعم الطموح ويغذيه ويساعدك على تحقيق ذاتك بشرط أن يكون هذا لخدمة هدفه الرئيسي..النظام والحضارة.
جاءت شخصية (كايلو رين) لترسخ هذه المفاهيم في الجزء السابع ( القوة تستيقظ)..حفيد دارث ڤادر يحبه الجمهور كما سبق أكثر من غيره..يقف في مواجهة القناع المحترق لڤادر ويقول: ساعدني يا جدي على أن أكون قويا..الفرق أنه عرف منذ البداية مع أي جانب يقف وهذا امتياز واضح على شخصية دارث ڤادر..عرف منذ البداية على أي جانب ينتظر المجد الحقيقي والقوة الحقيقية..هناك أيضا فكرة أن الغضب قوة هائلة إذا أمكن التحكم فيها وتوجيهها وإسقاطاتها في الواقع على أفكار لها علاقة بالقومية والشوفينية كقوى دفع هائلة للحضارة إذا تم استخدامها بشكل صحيح وهو ما أعتقد أنه سيتوصل إليه في الأجزاء القادمة وسأعود للحديث عنه بعد أن يصل الفيلم لكل جهاز كومبيوتر.
هناك سلسلة أخرى مشابهة لإيزاك أزيموڤ بعنوان (التأسيس) تتكلم أيضا عن امبراطورية مجرية وإن كانت أقوى حبكة وأفكار وبناءا علميا وفلسفيا ولكن عبقرية سلسلة حرب النجوم تكمن في بساطتها وقربها من خيال متوسطي الموهبة فهي تثبت أن الفن الشعبي هو الفن الأكثر قدرة على تحقيق تغييرات اقتصادية واجتماعية عملاقة والأكثر قدرة على تدعيم الهدف الوحيد الواضح والحقيقي لوجود حياة..الحضارة.